تذكرون جمال، وتذكرونه روايته القصيرة ظلال على جدران الزمن
جمال كاتب موهوب آخر من الذين لم يستجمعوا شجاعتهم قط لمحاولة عرض عمل لهم على دار للنشر..
عني شخصيا، أنا مدمن على كتاباته لأنه يستطيع خلق عالم خاص بمجرد أن يمسك القلم.. حينما يتحدث عن شيء يجعلك تراه من زاوية أخرىطالما لم تنتبه إليها..
هذا هو جمال، وهذه هي كتاباته..
وهذا أحد أعماله..
رواية سأنشرها على مراحل كالعادة..
فلتستمتعوا معي بهذا العمل..
“الشقي..”
…………………..
1
…………………..
جلسنا ننتظر السمك, كنت جائعا حقا وتناسيته لبعض الوقت.. ابتسم مشفقا لما اصطدمت نظراتنا, وعرفت أنه يترقب صوتي فنكست رأسي واعتراني الحنق ففقدت شهيتي واستسلمت لقمة الخبز لأناملي لمتكلسة..
-ماذا يحدث معك؟
-لا شيء يا عصام, أنا بخير!..
وتنهد باستسلام فأكملت طعامي بروية هذه المرة, وتحجرت عيناه على وجهي يحاول أن يقرأ عليه حروف التردد, وودت لو أصارحه بالحقيقة وإن كان أدرى بها من غيره لكنني لم أعتد أن أفعل.. لن ألفظ أمعائي خارجا, فرائحتها النتنة لن تغادر هذا الجسد حتى يفنى..
ويبدو أنه قد استشعر الأمر ذاته فأشعل سيجارة وقال:
-إنه والدك!!
-…
– هل طردك من البيت مجددا؟
-لا! ليس بعد..
-هل تحدثتما عن سبب سجـ..
-كلا!.. لماذا تسأل؟
ولم يرد فسلبته سيجارته..
كل الأحلام التي منيت بها نفسي تذوب مع الزمن وتلعقها الأيام, ولست أجد لذاتي الكسيرة سوى جدران قذرة أحاول أن أستند عليها لتعينني على الوقوف فلا تفعل سوى أن تضيف الألم إلى ظهري.. وكلما دنا المساء دنت عذاباتي فأعود إلى البيت الذي ما عاد مكانا مرحبا بي, أصوم عن الكلام واتخذ الركن مكانا لتعاستي وقلة حظي في هذا العالم..
وصمت عصام زمنا ثم قال:
-اسمع! هل ترغب بمرافقتي؟.. لا تقلق! سأؤمن لك عملا يليق بشاب متعلم مثلك..
-لا يهم, أريد أن أغادر هذا المستنقع فحسب..
لماذا نبحث عن بدايات جديدة في أماكن جديدة؟
هل معنى هذا أن الماضي يلوث بيوتنا القديمة ويعلق بجدران حاراتنا؟
لكل منا أشياءه الصغيرة التي يحاول الحفاظ عليها, أسرار أو ذكريات أو ربما هي مجرد كلمات عابرة خطها الزمن على صفحة أيامه.. لكن القدر اللئيم لا يكشف عن كل الأسرار, ولا تتضح ملامحه إلا مع مرور الزمن..
وقد عشت ما يكفي لأدرك أنني مجرد دمية, دمية بلا إرادة, دمية منحوها اسما وألبسوها ثيابا ورسموا على وجهها ملامح باهتة, وعلقوا عليها بسمة زائفة..
أنا لا انتمي إلى هذا العالم.. وربما يكون فراري المحموم إلى أحلامي دليلا فاضحا على نفس كسيرة لا يد لها في كل ما يحدث من حولها, لن أغير العالم أبدا.. لن أمنحه شيئا ولن أنقص منه شيئا, وحياتي في نهاية الأمر إنما هي هدية لا استحقها, هبة منحتني الأيام إياها فأضعتها..
……………………
صادفت السيدة فتيحة أمس, وهي بالمناسبة رفيقة أمي.
حاولت أن أتجنبها لكنها لمحتني فاجتازت الشارع.. ووددت لو أهرب فلا تلحق
بي, وعرفت أن الأمر لن يتم بالسهولة التي توقعتها.
-كيف حالك؟
وانتظرَت صوتي لبرهة من الزمن, وتردْدت فخرج صوتي متلعثما, لكنها عرفت فحواه فنظرت ناحيتي وابتسمت..
-بخير!!
وقالت تكسر وقع نبضات قلبي المضطربة:
-عرفت أنك خرجت من السجن..
-هذا ليس سرا.. لكني لم أكن سجينا, كنت معتقلا قيد التحقيق فحسب…
هزت كتفيها فأدركت أنها تحسب الأمر سيان.. والغريب أن الأمر بدا لي كذلك لوهلة, فماذا تعني الأسماء مادامت معانيها واحدة..
-لو لم يتدخل والدك لكانت العاقبة أسوأ بالتأكيد!!.
-ليته لم يفعل..
تنهدَت بحرقة أمام ردي, ابتسمت ربما لتنتشل مني تلك النظرة المليئة بالمرارة والحنق. هزت رأسها باستسلام أخيرا وقالت مشفقة:
-لا تيأس يا بني, أنت إنسان طيب.. لطالما كنت كذلك, وستبقى..
وجلدت سياط الذل روحي, وقبل أن تتركني لعذابي داعبت وجهي كما اعتادت أن تفعل وقالت:
-من الأفضل أن تنسى!..
هل أستطيع أن أدون اسمي من جديد في على لائحة الأحياء؟ إن روحي مجرد أشلاء, أشلاء تعيش لمجرد العيش, تحيا لمجرد أن الحياة لم تلفظها بعد..
ووجدت نفسي في النهاية ألعق بقايا الذاكرة.. بلا أمل في الغد.. بلا وعود أفي بها.. بلا أحلام.. وبلا طموحات أرنو إليها..
………………
لم تكن الغرفة قذرة كما ظننت, صحيح أن أثاثها رخيص والستائر البالية ترسم على الجدران لونا باهتا مصدره الشمس.. لكن الرائحة التي تعبق المكان جعلتني أشعر بالارتياح وبنشوة لم أدرك مصدرها..
وضعت حقيبتي على الفراش وسمعت المستأجرة تحدث عصام في الرواق الخارجي. لم أبال بما يقولانه -وإن يقنت قطعا أنني محور المحادثة- لأني كنت منهكا, منهك لدرجة جعلت تفكيري يتقلص في فكرة واحدة..
النوم..
-هل راقتك الغرفة؟
استلقيت جوار حقيبتي وأغمضت عيناي..
-لا بأس بها!!
-لو احتجت شيئا فما عليك سوى ضرب الجدار.
وضننت أنه سيلتحق بغرفته ليدعني وشأني..
-تلك السافلة طلبت مني أن أمنحها زيادة في الأجر لأني جلبت مكتريا جديدا..
سألته بآلية بعد أن فقدت التحكم في وعيي:
-حقا؟
فتح النافذة وأشعل سيجارة..
-فلتذهب إلى الجحيم! مادمت أدفع إيجار الشقة فلا شأن لها بي حتى لو جلبت سكان اليابــ..
…………………….
هل يحق لي أن ألوم والداي؟ هل هما حقا السبب في انتكاستي وهزيمتي القاسيةأم أن ما أجنيه ليس سوى لعنة أطلقاها علي؟
من السخف حقا أن أتهمهما بالأنانية مادمت كذلك بدوي.. والغريب أن هذا ما شجعني آلاف المرات على العصيان, وربما كنت أزيد بذلك الحدود الشاسعة التي رسمتها لنفسي في ذاك البيت الذي يفترض أن أكون جزءا منه.. لكني نأيت بنفسي بعيدا, ورسمت من حولي ستارا من التكتم, إن لم نقل جدارا من الصمت.. فنأيت عنهم بقدر ابتعادهم عني, ورغبت أن يكون لي ذاك الوجود الطيفي الذي لا تمس ولا ترى..
…………………………………
كنت قد اشتركت في معرض للرسوم الجدارية..
هناك حيث لقيت رانية أول مرة!..
…….
رن الجرس معلنا بداية الفسحة, ولم أجد ركنا آخر لأحتمي من شمس الصباح فجلست بجوارها.. التفتت ترمقني بنظرة خاوية, لذا تجاهلتها ورحت أنشد بصوت خافت وأحك قدماي بينما أنصتَت إلي بانتباه لعلها تفهم معنى عباراتي, ولما التفتْت إليها وميزت الضيق على محياها خانتني الكلمات فتوقفت عن الغناء..
ووجدتها فرصة لأبدأ حديثا توقعت له الفشل الذريع:
-لقد عملت بجد هذا الصباح..
وترددت لبرهة ثم قالت بلامبالاة حقيقية:
-كلنا عملنا بجد!..
-لكنك الوحيدة التي لم تطلب المزيد من الصباغة. بصراحة أنا أيضا فعلت مثلك وجلبت قنينة من المياه المعدنية لصنع الخليط, فهكذا نستطيع أن نوفر المزيد من الألوان…..
أدهشها كلامي وفهمَت أني كنت أراقبها طوال الوقت, والحقيقة أنها شعرت بالإطراء, فلا أحد هنا يعترف بما تقدمه على ما يبدو, ونظرت نحوي بامتنان حقيقي. وفكرْت أنني ربما نجحت في إذابة الجليد الذي ظلت تحتفظ به في مكان ما من روحها..
ولم أشأ أن يتوقف الحديث هنا, وتمنيت صادقا لو تعلق على كلامي فهذا الصمت يزيد من شعوري بالضجر, لكني خشيت أن أسبب لنفسي إحراجا أنا في غنى عنه لو تابعت الكلام..
-مالذي دفعك للحضور؟
سألتني وهي تتطلع إلى رسمي ثم تابعت بتهكم:
-فأنت لا تفقه شيئا في الرسم على ما يبدو..
وضحكَت فضحكْت بدوري..
-أسكن بالقرب من هنا. انتقلت منذ أسبوع فقط, ولما قرأت الإعلان قررت أن أشارك, فربما أحظى ببعض الصداقات هاهنا.. وأيضا أردت أن أفوز بالجائزة الأولى..
وقرأت في ملامحها جهلها التام لما قلته.
-أنا أمزح فقط, فلا توجد جوائز..
لم تعلق على مزاحي لكني لم أستطع منع نفسي من النظر ناحيتها, فسألتها بدوري:
– وأنت؟
ردت وبسمة حانية تلهو على محياها:
– هذه مدرستي! لقد نشأت في هذا المكان.. ترعرعت هنا, وهذه الجدران لا تزال شاهدة على لمسات كفي.. فخطواتي الأولى لاكتشاف العالم هي ذاتها خطواتي على الطريق إلى هنا..
-وأنت الآن عضو في ناد ما؟
-بل رئيسة نادي قدماء التلاميذ وهذا واحدا من النشاطات التي داومت على القيام بها, إنه ثمن بسيط فلاشك أني أدين بالكثير لهذا المكان..
ثم استدركت فجأة كأنما نسيت شيئا:
-بالمناسبة, اسمي رانية..
……………………………….
ربما كنت مستهترا في تصرفاتي لكني لمست فيها نوعا من التمرد.. صغيرا كنت أختلق المشاجرات والعراك في المدرسة والشارع مع فتيان أكبر مني أحيانا, صراعات أطفال نكون نحن وقودها ودخانها أيضا, فما الذي كنا نجنيه لو ضربنا بعضنا البعض سوى المزيد من الألم والدموع..
ولا زلت أذكر تلك المرة حين صفعني والدي فبصقت عليه أمام جارنا, فما كان منه إلا أن أشبعني ضربا ومنعني من اللعب في الشارع أسابيع طويلة.. والعجيب أنني لن أنسى له هذا الفضل أبدا, فهكذا بدأت أعتاد قراءة الكتب القليلة التي وجدتها بين حاجياته القديمة, وسرعان ما تحولت العادة إلى إدمان حقيقي..
لكن علاقتي بوالداي لم تكن متينة حقا, فلم أكن أشاركهم قراراتهم أبدا, وربما تخليت عن ذلك وامتنعت عنه طلبا للسلام فما كنت أتدخل في أمورهم, ولكن هذا لم يمنع أمي من تكرار محاولاتها اليائسة لاستمالتي, أما أبي فكان يساند أخي الذي يكبرني بخمس سنوات, بل ويدافع عنه بضراوة وأحيانا يحاول أن يفرضه علي ليس لكوني أصغر أبناءه فحسب, بل لأنه أراد أن يمنحه تلك الهالة السخيفة من الرجولة
والوقار…
……………………..
كنت في المطبخ أعد الشاي لما أفاق عصام, وقف يستند إلى الباب ويفرك عينيه. وعرفت أنه لم يسترح كفاية فوجنتاه شاحبتان والسواد يزحف أسفل جفنيه..
-متى استيقظت؟
-لم أنم بعد..
-وماذا كنت تفعل؟
-لن أخبرك!!
-لا داعي فأنا أعرف..
ولم تفلح العبارة في لعق البسمة من على وجهي, لكنه بدا واثقا إلى حد مرعب والضحكة المكتومة على طرف فمه تزكي ضنوني.
-هل تراودك الكوابيس؟
-كلا, إنه ألأرق فحسب!.
وجلس على طرف المائدة وأشار إلى الشاي..
-اسكب لي كوبا من فضلك!
واستدرت لأمنحه ما طلب. أشعل سيجارة وقال:
-ياسر, أريدك أن تنسى ما حدث.. فلا شيء يستحق أن تفسد حياتك لأجله!..
-لكني أشعر بالخوف هذه المرة.
-ومم أنت خائف؟
-أخشى أن أنام لأفيق على ذات الكابوس, أخشى أن أفقد هذا السلام الذي بدأ يدغدغ نفسي.. لا أريد أكرر ذات الخطى على ذات الدرب..
-أنا معك فلا تقلق..
-…
ولما انتبه عصام إلى الصمت الثقيل الذي هبط علينا زفر وتمتم:
-يجب أن تنام فأمامنا يوم شاق آخر..
حملت الإبريق معي, ولما دنوت من الباب سألته:
-عصام, هل تعرف سبب إفراجهم عني؟
-أعرف!
-حقا؟
-لم يجدوا أدلة كافية لسجنك..
وهنا ابتسمت مشفقا وقلت:
-ليت الأمر بالسهولة التي تتصورها!.. إنهم لا يريدون أن يصدقوني, ربما لأنهم لم يحسبوني قادرا على فعلها!..
-هل تقصد..؟
-بالتأكيد, أنا قتلته يا عصام! أنا قتلته!..
وارتجفت يده فأفلت السيجارة.
يتبع>>>
بسم الله الرحمان الرحيم..
يا الله.. كم هو ساحر أسلوبه !.. و كم هي شفافة كلماته !..
قرأت له بعض النصوص في موقع رواق الأدب.. أشـلاء.. و صار صديقي.. على ضفاف الثروة… و لطالما أعجبتني كتاباته.. نفس الطابع الحزين، الذي لا ينفك يُظهر بعض السخرية.. المريرة أحيانا..
أتمنى أن تنزل كل فصول هذه الرواية و كل رواياته التي في حوزتك.. كما أطلب منك شيئا يا عصام.. لو كنت تملك صورة له أرجو أن ترسلها لبريدي الإلكتروني..
و في انتظار باقي فصول هذه الرواية تحياتي إليك يا عصام و إلى صديقك (جمال بولخورص)..
شكرا أخي..
الحقيقة أن كلماتك تسعدني..
ويكفي أن أقول أن احساسك الراقي هو الذي يستحق التنويه.. فما الكلمات إلا وسيلة للتواصل ومن يجيد تذوقها وحده يستطيع أن يستمتع بطعمها الحلوة..
عصام لا يملك الأجزاء كاملة, وربما هو بانتظار الجزء الثالث لينزل الثاني.. وسر تأخري هو رغبتي في ارسالها كاملة ختى لا يظطر لكسر دماغي..
هي خطوة ذكية من جهته, وورطة بالنسبة لي.. لذا سارسل له باقي الاجزاء نهاية هذا الأسبوع!!
فيما يخص الصورة, اعتقد ان عصام يملك واحدة..
ومرة أخرى شكرا..