تجاوز المحتوى

التصنيف: مذكرات

مذكرات التي غطاها غبار الزمن

في الطائرة (عنوان مبتكر)

كانت رحلتي الأولى على متن الطائرة..

لا شيء يدعو للخجل، لم يتسن لي من قبل السفر خارج البلاد، فلم تكن هناك بي حاجة للطائرة.

حتى هذه كانت رحلة داخلية من الدار البيضاء إلى الداخلة،  وهي للعارفين بخريطة المغرب بمثابة رحلة خارجية بالفعل،  إذ تستغرق بالحافلة أزيد من 24 ساعة.

تعرفون ظاهرة الهجوم على الأمتعة من طرف المتحمسين بالمحطات الطريقية،  والذين يتطوعون في سبيل الله وبضعة دراهم ليوصلوك للشباك المنشود؟  تعرفون هؤلاء؟  جيد..  إنهم متواجدون بمطار محمد الخامس تحت أعين الأمن.  قفز متحمس منهم يجر حقيبتي التي لا تحتاج مساعدة أصلا وتركني وراءه متجها إلى الشباك.
-“هييييه!  إلى أين أنت ذاهب؟ “
-” اريك مكان الحجز وأساعدك”
-“وهل أبدو لك معاقا أو أميا حتى تختطف حقيبتي من أمامي وتفرض علي مساعدة لم أطلبها؟ “
-” غير تعاون معانا”
حلوف مدرع قد يقصمني نصفين،  وبدل أن يبحث عن عمل شريف يسترزق به يأتي ليبتزني نفسيا.
طلبت منه بلطف إجباري أن يترك الحقيبة،  واتجهت إلى الشباك الذي لم يكن يبعد بأكثر من عشرة أمتار.
قدمت بطاقة تعريفي الشخصية،  ووضعت الحقيبة في الميزان لأصاب بصدمة.  ثلاثة كيلوغرامات زائدة عن الوزن المسموح به.  ياللصوص!  إن الميزان متلاعب به، فقد قمت بوزن الحقيبة قبل الحضور. أذكر في مطار أكادير أن وزن حقيبة زوجتي قبل سفرها كان زائدا بثلاثة كيلوغرامات أيضا عن الوزن الذي حسبناه،  مع فرق أنها بتلك الزيادة لم تكن قد تجاوزت الوزن المسموح.  سألت الموظف وجه حانق عن الزيادة التي علي دفعها فكانت أكثر من 500 درهم  (فوق 60 دولارا). أيها اللصوص الملاعين! فتحت الحقيبة وأخرجت قرص صلبا وحقيبة صغيرة لأغراض الاستحمام. بقي كيلوغرام آخر زائد..  كنت أنتظر أن يعترض لأنفجر في وجهه وأطلب مقابلة المسؤول كي أفهم هذه المهزلة.  يبدو انه استشف خطرا من ملامح الشر المستطير البادية علي،  ولعن الشيطان.
دفنت القرص الصلب الضخم دفنا في حقيبة الكمبيوتر،  وحملت الحقيبة الصغيرة في يدي كأية فتاة محترمة.

واتجهت إلى شيء أشبه بكافيتيريا مفتوحة وسط بهو الانتظار. سألت عن الاتصال اللاسلكي..  لا شيء..  بينما هنالك دول تتحدث عن أن الاتصال بالأنترنت يجب أن يصبح حقا لكل مواطن،  وتنتشر مشاريع مدن كاملة التغطية بشبكة أنترنت مجانية للجميع،  لا يزال على الزبون في مطارات المغرب أن يبقى جالسا بالساعات بالمطار دون اتصال يقضي به أغراضه. الشبكة الوحيدة المتوافرة هي شبكة مغلقة خاصة بالمكتب الوطني للمطارات.
كنت قد توقعت شيئا من هذا القبيل لذا عبأت مسبقا موديم اتصالات المغرب من الجيل الثالث ما قبل التاريخ، ثم جلست أعذب نفسي بمحاولة تحميل المواقع، و أحتسي كوب القهوة الذي سيخرب ثمنه بيتي حتما.

تجاوزت الحاجز الأمني دون مشاكل، رغم ربطة الحزام الحديدي الذي أرتديه، ثم أخذونا بباص صغير إلى الطائرة التي لا تختلف عنه كثيرا. ذلك التشابه المريب جعلني أتساءل إن كانت هذه الطائرة تحلق أم أننا سنسير برا.

كان لدي انطباع لطيف عن مضيفات الطيران الجميلات الطيفات (الله يلعن أبو الأفلام التي رفعت المعايير)، لكن الطاقم الذي صادفته لم يكن من هذه النوعية للأسف.
لم تفتني الفرصة لأتذكر الفنان الساخر الجميل جاد المالح و( les gestes approximaticf) مع حركات المضيفة المبهمة، والتي تتظاهر بأنها تشرح تعليمات السلامة الصادرة عن الميكروفون. في الحقيقة يبدو الأمر وكأنها تحاول الهاء الركاب عن الاستماع.

ورائي تماما كان يجلس شاب مجاورا فتاتين يحاول أن يشرح لهما كم هو رائع ولماذا عليهما أن تغرما به، وكيف أنه يذهب لسويسرا كل سنة، و في أروبا والدول المتقدمة… الخ.

أتى وقت الطعام على ما يبدو.. وضعت المضيفة أمامي اسفنجتان ومشروبا. ولسان حالي يقول: “أنا عايز عيش عشان اكله، مش عشان أحلف عليه! “.
wpid-20150525_154550

تسليت بمضغ تلك الأشياء من باب تجزية الوقت ليس إلا، في حين كان صديقنا الشاب قد وصل إلى فصل الأكل في طائرات الشركات الأجنبية.. تذكرت(جاد المالح) من جديد :” On va manger de la meeeerde”.( مع الاعتذار للاخوة غير الفرانكفونيين والذين لم يروا العرض).

عند الوصول، وبعد المرجو ربط الأحزمة والذي منه. نزل الطيار باصطدام شديد للعجلات مع الأرض، فصرخت الفتاتان وبعض الركاب. أما جيمس بوند الذي ورائي فقد قال بصوت عال وهو يصفق: “لقد كان هبوطا جيدا يجب أن تصفقوا على الطيار!”.

بالتأكيد حينما عدت بالطائرة من جديد ورأيت بأم عيني ما معنى الهبوط الجيد، تأكدت من أن الأخ حمار كبير مدع.

4 تعليقات

عقد قران كوميدي

إنه اليوم الموعود..

خطيبتي (زوجتي حاليا) تعاني من حالة (Freaking out) اﻷمريكية الشهيرة، حيث تنتظر الفتاة يوم العرس كي تقرر أن تطرح على نفسها أسئلة ممتازة من طراز: “ماذا لو لم يكن الشخص المنشود؟”. في حين كنت أنا أعاني من حالة : « تبا ! أين هو مكتب العدل (المأذون) الذي سيعقد قراننا؟”. كنت وأبي تائهان تقريبا في دائرة لا يتجاوز نصف قطرها المائة متر.

وصلتني رسالة نصية : « سلام. هذا آخر إنذار قبل أن تودع أيام العزوبية. فكر جيدا قبل أن تتورط مثلنا”. إنهما يتهكمان ! كانت رسالة من صديقي وزوجته، التي كانت ضرتي بالمناسبة. لقد كنت أقضي مع الرجل وقتا أطول مما تقضيه معه زوجته بحكم عملنا معا،  ومن هنا أتت فكرة الضرة في لحظة صفاء ساخرة.

 في هذه اللحظة، وصلت زوجتي (خطيبتي حينها) برفقة والدها. وحينما نظرت إليها في جلبابها اﻷبيض والنظرة المحتشمة في عينيها، خطر لي أنه سيكون من اللطيف أن أقضي ما تبقى من حياتي مع مخلوقة كهذه، في حين أنها لا بد كانت تفكر في الخواطر السوداء أعلاه.

* * *

“إنه لعدل (مأذون) غريب اﻷطوار !”.  هكذا فكرت وأنا أجلس قبالته، في حين كان هو ينقر على لوحة مفاتيح الحاسوب. لقد انتهى عصر الدفتر إذن ! هنالك بعض المهن لديك تصور كلاسيكي عنها، ولا يمكنك ابتلاع تغييره بسهولة : (عدل = جلباب تقليدي + دفتر). أما حكاية الحاسوب هذه فهي جديدة.

هل الرجل يجول في موقع يوتيوب أم أنني أحلم؟

انطلقت فجأة موسيقى غرناطية من السماعات. إنه يضعنا في الجو.

– “أين العريس؟”.. تساءل العدل.

“ماشاء الله عليه نبيه جدا !”.. تذكرت عبارة عادل إمام في مسرحية الواد سيد الشغال. بالتأكيد لن يكون العريس والدي، أو أبو زوجتي، ولا حتى صديقي (زوج أختها) المرافقين لنا لسبب بسيط يتعلق بفرق السن الواضح. يبدو أنني الوحيد الذي كنت مناسبا للدور لذا رفعت يدي بأسلوب المدارس “حاااااضر !”

انتظرت أن يسأل “أين العروس؟” كي أتيقن من خباله، لكنه لم يفعل، مما طمأنني نسبيا على مستقبل صياغة العقد.

لم يفته طبعا أن يتساءل من باب الفضول الحميد عن موقع صديقي من اﻹعراب، وسبب قدومه، وأكلته المفضلة.. إلخ إلخ..

 أجلسني في المقعد المقابل على المكتب، ثم صبغ وجهه بملامح الخطورة، وسأل فجأة :

– “لماذا تريد أن تتزوج؟”

كان السؤال مفاجئا.. هل تعرف إحساسك حينما تدخل حصة دراسية أيام الابتدائية ويسأل اﻷستاذ سؤالا، يتجول بين الصفوف بحثا عن فريسة،ثم يضع يده فجأة على مؤخرة عنقك قائلا : « لنر بماذا سيجيب هذا الحمار ! ».

تذكرت مقالة قديمة لي في جريدة المساء، حيث كان الاستهلال: ” إن الانسان يتزوج حينما لا يجد شيئا آخر يفعله”.

أجبته الجواب الكلاسيكي من الكتاب كما يقال :

– « أريد إتمام ديني”

لم يكفه الجواب على ما يبدو، لذا قفزت إلى الفصل الثاني من الكتاب :

– « إنها السكينة”

وكما توقعت، كان لابد من المرور على الكلمة كي يخرج باﻵية الكريمة : « ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزوجا… » ثم يتوقف لهنيهة كأي فقيه يحترم نفسه كي يضع التأكيد على ما يلى “لتسكنوا إليها”. لم يخلق بعد فقيه يقاوم هذا اﻷسلوب.

ثم مضى يعدد محاسن الزواج، وأهمية أن يكون الزواج عن قصة حب (مأذون عصري جدا كما تلاحظون).

التفت إلى خطيبتي (زوجتي حاليا)، وقال :

-“الحياة ليست كالمسلسلات.. و(مهند) وقصصه ليست نموذجا”

ياللهول !.. إنه مأذون (صايع) كما يقول اﻷخوة المصريون.

لم أتمالك نفسي من الابتسام وأنا أتصور الرجل جالسا أمام حلقات المسلسل التركي الشهير. يبدو جد ملم بالتفاصيل.

«النساء يرفضن دخول الجنة !”. لقد بدأ يتحمس.. ويرفع صوته.

– « أجل إنكن ترفضن دخول الجنة.. يمكنك أن تدخلي الجنة من أي من أبوابها .. فقط برضى زوجك.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها, وحفظت فرجها , وأطاعت زوجها , قيل لها ادخلى الجنة من أي أبوابها شئت ) »

وقعنا على عقد الزواج، ولم يفتني الانتباه إلى يد زوجتي المرتجفة وهي توقع.. وقبل أن نغادر كان لابد للعدل أن يضيف :

– “اﻵن لابد أن تذهب لإحضار المؤونة،” والتفت إليها “وجهزي له طاجنا ممتازا ! “

لا حول ولا قوة إلا بالله.. لماذا لا ترافقنا للبيت كي تأكد بنفسك؟

* * *

على العموم، فكلام الرجل في مجمله لا بأس به، وإن كانت طريقته الهزلية في التعبير قد ضيعت كل شيء. وهناك مشكل بسيط آخر اكتشفه لاحقا.. لقد قتلنا كلاما عن قدسية الزواج وعن مساوئ الطلاق، في حين أنه شخصيا تزوج وطلق مرات عديدة. إن الرجل ينطبق عليه المثل المغربي الشهير : « الفقيه اللي نترجاو بركته، دخل لينا للجامع ببلغته ! »

33 تعليق

يوميات بيزو خانز (2)

سابقا في مذكرات طالب مهندس: يوميات بيزو خانز (1)

هذا يومك الثاني بالمعهد..
استيقظت مبكرا كي تخرج قبل أن يستيقظ الوحوش.. دغدغ الهواء البراد رئتيك، و…
ما سبب نظراتكم المتسائلة هذه؟
تتساءلون عما حدث بالأمس.. حيث توقفت الحلقة السابقة؟ الحقيقة أن هذا نوع من الفضول الحميد..
لقد ظننتَ الأمرَ لا يهم سوى من يعيش الحدث.. لا يهم سواك.. أنا أيضا ظننت ذلك..
على العموم لم يحدث شيء ذي بال.. اللهم إلا خمس أو ست طلبة جدد استحموا بالخراطيم المائية.. وآخرون مارسوا رياضة السباحة البرية فوق العشب.. وآخرون رسموا حرف بيتا بأجسادهم فكاد بعضهم يهشم عظامه.. الروتين المعتاد كما تلاحظون..
لكنك لم تجده معتادا حينها.. لم يكن روتينا، ولا أشياء مبهجة كما هي بالنسبة لي الآن.. الحقيقة أنني وأنت رغم كوننا نفس الشخص، إلا أننا مختلفان جدا.. دخلت أنت إلى المعهد وخرجت أنا.. خلال الأربع سنوات التي أمضينها معا، كنت تختفي أنت لأظهر أنا ببطء.. فلندع الأحداث تظهر الأسباب.. فلنتابع السرد..
* * *
مرعب!
مشهد مرعب حقا!
العشرات من العيون الملتصقة بك..
تلك الجدران الآدمية التي تتطلع إليك من عل، وأنت جاث على ركبتيك مجبرا، وتضع أصبعك الوسطى فوق أرنبة أنفك في وضع بذيء شهير..
إنه لمشهد مرعب حقا بالنسبة لشخص حديث لم تسخن قدميه موطئهما بعد بالمعهد..
حينما سحبك ذلك الطالب القديم من ذراعك أوقفك أمام دزينة من القدامى الذين كانوا يرمقونك كأنهم يرون مخلوقا فضائيا.. أجبرك على الوقوف على ركبتيك.. ثم…
– “هيا! قم بالتحية!”
قالها أحد الملتفين بك و هو يحاول أن يخرج عينيه من محجريهما على سبيل الإرعاب.
– “السلام عليكم ورحمة الله..”
قلتها أنت كمن أدى واجبه في الحياة..
يضحك البعض.. يبتسم البعض الآخر.. في حين يحتقن وجه السائل وهو يحاول كتم ضحكته كي لا يخرج من الدور.
يقول مجددا:
-“التحية أيها المتحذلق!”
يأخذ ذراعك الأيسر ليلفه من فوق رأسك، ثم يطالبك بأن تضع pi.png .. لقد ظننتَ أنك انتهيتَ من عالم المفتونين بالرياضيات كالمجانين، لكن هؤلاء أثبتوا لك العكس. تكتشف بعد ذلك بأن pi.png هذه ما هي إلا وضع الوسطى بشكل زاوية قائمة مع باقي الأصابع في وضعية بذيئة، ثم وضعها فوق أرنبة أنفك. تتساءل عن الوضع لو كان المطلوب هو ( Ω ).. هل سيكون عليك أن تكسر أصابعك؟
مستوى نظر غريب.. إحساس بالدونية تذوقه لأول مرة بحياتك..
أنت هناك، تحت مستوى بصر الأغلبية.. هم هناك، وليسوا بحلاقين كي تفسر انخفاض رأسك بمبرر كهذا. أنت منخفض لأنك مجبر.. لا شيء غير ذلك.. يا لها من مهانة!
تصرخ بأعلى صوتك: «Salut mes anciens supérieurs!!».. *
صرختك تحمل كل مشاعرك المتناقضة.. ذل.. ثورة.. سخط.. خنوع..
كم هو رائع هذا الصراخ.. لولاه لفقدت أعصابك.. لولاه لانقضيت تقضم أنف أحدهم.. ذلك الأنف الذي بدؤوا جميعا يحشرونه في شؤونك الخاصة وهم يسألونك بوقاحة.. إن مخترع هذه الصرخة لشخص عظيم.. شخص أنقذ ثلة من أنوف الطلبة القدامى التي إن لم تقضم لكانت ستهشم..
– “إنه ولد مطيع!”
يقولونها ويتركونك تذهب غير عالمين بما تضمره نفسك.. لقد قررت أن تعذب بعضهم مهما كلفك الثمن.. أجل! تلك النوعية التي تتمتع بتلك السلطة التي تمارسها عليك.. كيف يمكنك أن تفعل ذلك؟ هذا ما لا تعلمه بعد.. لكنك لن تعدم الوسيلة حتما..
تعلمت من ذلك الموقف أنك بقليل من التعامل الذكي بإمكانك أن تتجنب العديد من المشاكل.
ثم كان عليك أن تمر بلجنة (عبد القادر).. إنه طالب من القدامى أيضا.. ورغم أنه أوقفك إلى جانب بعض زملائك الجدد على ركبتيك أيضا، إلا أن نوعية حديثه كانت مختلفة.. كان يتحدث عن ثلاثية القوى بالمعهد: قوة الإدارة، وقوة الأساتذة، وقوة الطلبة.. تحدث عن ضرورة أن نكسب الأساتذة في صفنا لأنهم القوة العظمى.. لقد أثبتت الأيام لاحقا أننا كسبناهم بالفعل.. فقد كانت تلك السنة المباركة هي سنة المجزرة التي طرد فيها 18 طالبا، وكرر 24 السنة الأولى.. والله أعلم بما حدث بالنسبة لباقي السنوات.. سنعود إلى الموضوع لاحقا.. أما الآن فلتستبسل في تحمل الأخ (عبد القادر) لأنه كان يتحدث عن أشياء مهمة بالفعل..
وصلت الغرفة أخيرا بعد العديد من الكمائن ومحطات التفتيش والمراقبة و(البيزوطاج).. تتطلع إلى الأمتار المربعة الثلاثة.. لا بأس! لا بأس على الإطلاق! لا ينقصها سوى الحمام الفردي و(الدوش).. ذلك (الدوش) الذي اكتشفت أنه جماعي أكثر مما يجب.. فلا توجد هنالك أبواب تفصل الواحد عن الآخر.. صباح العري المكشوف!
وفي المساء.. تستلقي فوق السرير.. ذلك المعشوق الأبدي الذي لم تحب من قبل أحدا بنفس مقدار حبك له.. مريح!! وجديد أيضا!! انتهى عهد الأرجوحة الصيفية التي يسمونها مجازا بالسرير، في الأقسام التحضيرية.. هذا سرير صلب ذو نوابض حقيقية أخيرا..
تشغل شريطا موسيقيا.. الأخ (صابر الرباعي) يصرخ: “خلص تارك! طفي نارك! ملي شفتو قبل مني…”
يبدو أنه يدرس بمعهد به (بيزوطاج) هو الآخر! فهنالك دوما ذلك المنطق الذي يتخذه القدامى: “أنا أمارس (البيزوطاج) لأنه مورس علي من قبل”.. نوع من الانتقام ممن سبقوك.. هكذا كنت ترى الأمور.. أنا أعرف الآن أن الأمر ليس كذلك دوما، لكنك حينها كنت حديثا، غير ناضج، لا تعرف العديد من الحقائق.. لا أحد يلومك يا صاحبي..
إنه صراخ.. إن مصدره قريب جدا.. تطفئ جهاز تشغيل الأشرطة.. تقفز إلى الباب فتغلقه بلفتي مفتاح كاملتين.. لو كانت هنالك لفات أخرى لقمت بها حتما.. منعت نفسك بصعوبة من أن تضع السرير وراء الباب.. تبتسم في قرار نفسك لهذا الفكرة المرعوبة.. لكنك تتساءل بالفعل إن كانوا قد يصلون إلى حد تهشيم الباب لو لم تفتح.. إن كم الأشياء المرعبة التي سمعتها عن (البيزوطاج) وما يمارس به لكفيل بأن يجعلك تعيش في رعب دائم.. الصراخ يرتفع.. يبدو أن هنالك شجارا ما.. وهو قريب جدا.. ربما هي الغرفة المقابلة أو التي تجاورها..
تضع أذنك على الباب كي ترهف السمع وقلبك يدق بسرعة ألف دقة لو كان شيء كهذا ممكنا.. ثم اصطدم شيء ثقيل باب الغرفة بقوة غير عادية.. وقفزت إلى الخلف كأن الضربة كانت في وجهك مباشرة…

————————————————————-

* تحية لرؤسائي القدامى!

5 تعليقات

يوميات بيزو خانز (1)

ليلة أكثر سوادا من كحل العيون قضيتَها في الطريق من بلدتك الصغيرة إلى الرباط. حافلة يفترض بها أن تكون مريحة! لكنك دفعت ثمن هذا الافتراض غاليا.. دفعته على شكل مقعد لا ينثني، يجعلك تجلس كالبوم طوال الطريق.. دفعته على شكل محرك لا يكف عن العويل مضيفا مؤثرا صوتيا فذا ساهم في رسم سيمفونية الأرق التي تمتعت بعزفها لا محالة.

تصل إلى الرباط مهشم الأوصال. تبحث عن يدك اليسرى فتجدها وراء قفاك مباشرة.. تبحث عن كوعك فتجده مدفونا في بطن رفيقك بالرحلة، في حين يخرج هو يده اليسرى بصعوبة من فمك. تكتشفان أنكما بحاجة إلى دليل (Catalogue) لإعادة تركيب أشلائكما.

أمامكما الآن إحدى مهام (سيزيف) البطل الأسطوري: حمل جبال الأمتعة التي أحضرتماها معكما وكأنكما مهاجران من (تمبكتو)، والوصول إلى المعهد الذي ستبدآن به دراستكما.. “المعهد الوطني للإحصاء والاقتصاد التطبيقي”. لم تكفا طيلة الطريق عن الحديث عن (البيزوطاج) وعن الأساطير التي تحاك حوله، والتي شنٌفت آذانكما من مختلف المصادر. لذا توقعتما أياما أسود من كل قلوب كفار قريش مجتمعين.

تركبان سيارة شحن صغيرة، كان صاحبها الوحيد الذي قبل أن ينقلكما دون أن يحطم جيوبكما. أنتما أذكياء جدا، لذا تطلبان منه التوجه إلى بوابة الداخلية مباشرة وأنتما متأكدان أن الآخرين، الأغبياء، سوف يتجهون إلى الباب الرئيسي ثم يدخلون. لقد كانت لديكما معلومات أكيدة أن التسجيل يكون في باحة الداخلية. أنتما أول من يصل لدهشتكما، والساعة قد قاربت الثامنة إلا ربع. توقعتما أن تجدا طوابير طويلة كما حدث أول مرة في الأقسام التحضيرية، ولكن لا شيء.. الخواء هو عنوان اللوحة.. لا طلبة ولا موظفين ولا قطط حتى..

ترجعان الأمر إلى أن العقلية (الرباطية) ستكون مختلفة حتما عن عقلية منطقتكما.

تجلسان فوق أحد المقاعد الحجرية التي تعانق الجدار على طول البناية اليسرى من المدخل، وتنتظران أول الوافدين الذي لن يكون سوى أحد القادمين من مركزكما حتما.

وقد كان.. إذ دخل (عثمان) من البوابة مجاهدا في جر أمتعته.

عناق.. فالقبلة الرباعية الشعبية الشهيرة الشنيعة.. ثم تجلسون لتتسامروا حول الموضوع الشائق الشائك الذي يشغل تفكيركم جميعا: (البيزوطاج) طبعا.

يخرج رجل نصف حليق من بوابة بناية الداخلية..

طول بعرض بكرش بارتفاع.. هذا هو الوصف المناسب له. يتطلع إليكم بنظرة غريبة، ثم يتجه نحو (عثمان) مباشرة، و يغمغم بصوت متحشرج:

– ” أعطني أوراقك !”

يتطلع إليه (عثمان) باستهجان، ثم يبتسم بسخرية قائلا:

– “أعطني أوراقك أنت أولا!”

يعقد الرجل حاجبيه في ما يشبه الغضب، ويقول:

– “لا تريد أن تتم التسجيل؟”

– “ليس بعد! سأنتظر أن تفتحوا المكتب أولا..”

– “أنا من سيقوم بذلك أصلا..”

– “لا بأس.. أعطيني علامة.. إمارة.. رخصة قيادة.. ورقة رمادية.. أي شيء…”

– “تهرج؟ حسنا.. لن تتم تسجيلك لهذا اليوم!”

– “هذا ما سنراه!”

يحملق الرجل نصف الحليق فيكم بنظرة شذرة تبادلونه إياها بأخرى مشمئزة، فيترككم ويرحل متوعدا إياكم بالعودة لاحقا.

هو طالب إذن كما توقعتم.. ياللهول!! لو كانت هذا الفحل كله طالبا، فكيف سيكون مسئولو وإداريو المعهد؟ عمالقة أسطوريين؟

 

تصل في تلك اللحظة فتاة ترافقها والدتها وتجر معها حقيبة مرعبة الحجم. تسألكم الأم إن كان التسجيل قد بدأ، فتجيبون بثقة أن “ليس بعد!”. هنا يخرج طالبان آخران لا يزال العمش يطمس عينيهما. يتطلعان إليكم في دهشة، ثم يسألانكم إن كنتم قد أتممتم التسجيل بالخارجية أولا. تحركون رأسكم نفيا بشمم لم يتمتع به اللورد (كرومر) نفسه، فيبتسمان في سخرية، ويشيران إلى الطريق الداخلي المؤدي إلى الخارجية.. يشرحان المسألة لكم في بضعة كلمات لطيفة تذيب حاجز التوتر نحوهما، لكنها ترفع من حاجز الإحساس بالغباء إلى سقفه العلوي.. التسجيل يتم بالخارجية أولا.. يالهول!! ستجدون شعبا هناك..

تهرولون جميعا إلى المكان تاركين أمتعتكم بيد الله (لا أتحدث هنا عن الوزير السابق طبعا). وكان ما خشيتموه.. كان مدرج صغير شبه ممتلئ ينتظركم.. تدخلون وأنتم تتوقعون أنكم لن تخرجوا قبل الظهيرة على أحسن تقدير.. إلا أن المفاجأة السعيدة كانت بالانتظار: التسجيل كان يتم بالترتيب الأبجدي.. هذا يعني أن كل من بدأ لقبه بحرف “Z” قد حكم عليه بالإعدام مللا، و بأن تصل لحيته إلى الأرض بانتظار دوره. إنه الغباء الإداري في أشنع صوره..

كان رفيقك (عبد الله) هو أول من استفاد من ذلك الغباء، وخرج وهو يحييك بابتسامة من نوع “لقد سبقتك”.. فتجيبه بدورك بابتسامة من نوع “تبا لك!”..

وحينما تتم العملية بدورك، تهرع لتلحق بما تيسر من غرف مناسبة.. و هناك، في ممر ضيق يفصل الملاعب عن باحة الداخلية.. حيث صواريخ الهواء التي تقتلع صدرك وأنت واقف.. هناك كان (عبد الله) واقفا على ركبتيه وهو محاط بأكثر من ستة طلبة قدامى.. إنه أول ضحية لهذه السنة كما ستعرفون فيما بعد.. هذا هو ما يسمى بحظ الدجاجة.. تظهر أولا، فتذبح أولا!تتظاهر بأنك الرجل الخفي، وتمر بجوار الجمع المنشغل وكأنك غير معني بالأمر. ولدهشتك لا يهتم أحدهم لأمرك وكأنهم انغمسوا تماما في ما يمارسونه على صديقك من أوامر.

تجد مجموعة أخرى من الطلبة الجدد قد بدأت عملية التسجيل بالفعل، غير عالمين بما يحصل بالجوار، وإن كان جو من التوتر مخيما على المكان.. تضع أوراقك في مجموعة صف الانتظار، وتحاول أن تتوارى عن الأنظار بجوار شجرة (مزاح) كبيرة.

– “(بيزو).. تعال إلى هنا يا (بيزو)!”..

إن أحدهم ينادي على المدعو (بيزو)..

– “(بيزو) نظارات.. أنا أتحدث معك!”..

أنت الوحيد الذي يرتدي نظارات في المجموعة الواقفة، لكن من قال أن اسمك (بيزو)..

تتظاهر بأنك أعمى أصم أخرس أحول لو استدعى الأمر.. إلا أن تلك اليد التي توضع على كتفك، وذلك الوجه الذي يطالعك بابتسامة كريهة، وصاحبه يسحبك خارج الجماعة، ويتوجه بك إلى مجموعة من الطلبة القدامى.. كل هذه المظاهر تعلن لك بوضوح أنك قد وقعت!

تابع القراءة: يوميات بيزو خانز (2)

1 Comment

حين ننام كأجولة البطاطس..

سابقا في مذكرات طالب بالأقسام التحضيرية:
مذكرات طالب باﻷقسام التحضيرية
مسار الأف ميل:خطوة البداية (1)
مسار الألف ميل: خطوة البداية (2)
جولة سياحية معتبرة(1)
جولة سياحية معتبرة(2)
جولة سياحية معتبرة(3)
يوم أول!!
سمير.. سمير.. أشياء مشابهة

اقتباس من حلقة سابقة:
الحقيقة أن لا شيء يهم حينما تكون هنا.. فبعد يوم دراسي حافل، ومع تأثير أطنان الصودا التي يصرون على وضعها في الطعام، يكفي أي وضع أفقي أو حتى عمودي، كي تغرق في سبات يتفوق على عمق سبات الدببة القطبية.. (يقول (بعد الله) أنه يغرق في النعاس بمجرد وضع رأسه على المخدة.. أما أنا فلا أذكر يوما متى وضعت رأسي على المخدة مما يجعلني أظن أنني أغرق في النعاس ورأسي في الطريق إليها..
إن النوم هو الخصم اللدود والمرض الشعبي بالمركز.. يمكنك أن تظن، وأنت مرتاح الضمير، أن المركز مليء بمستعمرات ذبابة تسيتي، ولن يخالفك أحد الرأي.. لكن التأثير المميت يختلف فقط من شخص لآخر..
ذات يوم قررت و(عبد الله) أ ن نأخذ قيلولة من النوع الطويل.. قيلولة من النوع الذي يستمر حتى الساعة الرابعة بعد الزوال.. ضبطنا كل شيء.. منبهات الهواتف المحمولة.. منبه ساعتي اليدوية.. وآلة إيقاظ الموتى التي يصر (عبد الله) على تسميتها بمنبه.. تعرفون ذلك النوع من المنبهات الذي يمكنه أن يكسر الزجاج بصوته؟ هو ذاك..
سبحنا في ملكوت الله حتى الرابعة.. فطفق كل شيء يرن.. زلزال صوتي لا يبقي ولا يذر..
وهناك، بجانب كل هذا الضجيج كان مخلوقان متمددان لا يحركان ساكنا، وكأنهما ينامان تحت صوت موسيقى كلاسيكية هادئة..
صدقوني.. لقد حاولت أن أقوم.. لكنني فشلت فشلا ذريعا..
انطفأت منبهات الهواتف بعد أن ملت، ولم يجد منبه الساعة اليدوية، بصوته الضعيف، مكانا وسط الصخب المدوي، فخرس بدوره.. لكن آلة إيقاظ الموتى كانت مصرة على الاستمرار.. والمشكلة أننا وضعناها في منتصف المسافة بيننا كي لا نخرسها ونعود للنوم..
تمكنت بصعوبة من أن أفهم أن الصوت المزعج هو صوت المنبه.. وحينما قررت أن أقوم لأخرسه انطفأ الضوء الإلهي من أمام عيني.. ثم أحسست أن هناك صوتا مزعجا بالمكان.. وحينما فهمت مجددا أنه صوت المنبه كنت قد غرقت مرة أخرى في النعاس..
ما فهمته بعدها هو أن المنبه بقي يرن لربع ساعة، لابد أننا حصدنا فيها كل اللعنات الممكنة من طرف الجيران، قبل أن يتمكن (عبد الله) بمعجزة ما من أن يقوم بمجهود خرافي ليصل إلى المنبه ويخرسه، قبل أن يعود ليواصل النوم حتى الليل..
هناك حكايات أخرى من هذا النوع لدى العديد من الأصدقاء، أتركها للتفصيل في حلقة أخرى..
دعونا ننزل.. فهذا وقت وجبة العشاء..

اليوم.. حديثنا عن النوم..
كنت أظن النوم واحد.. في كل مكان وكل زمان..
كنت أظنه تلك الحالة البيولوجية التي يستكين فيها الإنسان إلى حالة من السلام والهدوء، حيث يغمض عينيه ويكف عن الأذية والكذب والنفاق ولو إلى حين..
إلا أن الأقسام التحضيرية قررت مشكورة أن تضرب بهذا الإعتقاد عرض الحائط قبل طوله..
إن برنامجنا اليومي باعتبار عامل النوم الحيوي يكون كالتالي:
ندخل الفصل في الثامنة.. وكنت قد توقفت منذ فترة عن نقل الدروس على كراستي بحجة الرغبة بمتابعة أفضل. كما أنني لم أحب يوما أن أنضم إلى جيش التحرير كما نسميه، وهم مجموعة نت طلبة الفصل الذين لا يمارسون سوى عملية تحرير ما يكتب امامهنم، على كراساتهم، والسواد الأعظم منهم لا يفقه الألف من الياء فيما يكتب.. إن المسألة بالنسبة إليهم تعتبر نوعا من الرسم الفوتوغرافي الذي يمارسونه كأي نشاط فيزيولوجي كالهضم او التنفس.. وفي غالب الأحيان تجد الأيادي والأعين تعمل باستقلال تام عن وظيفة التفكير والمتابعة..
إن صبيب الدرس مرعب حقا. و الأساتذة بالأقسام التحضيرية يحتاجون إلى لياقة بدنية عالية ليستطيعوا إنهاء المقرر في الوقت المناسب. ففي لمح البصر تمتلىء الصبورة بأطرافها الأربعة، فتمسح من جديد ليعاد ملؤها. يخيل إلي أحيانا أن الأستاذ يكتب بالطباشير بيد ويتبعه الممسحة مباشرة بيد أخرى توفيرا للوقت والمساحة، فلا يستطيع مجاراته في الكتابة سوى المحررون الأفذاذ. وترحمت غير مرة على أيام الدراسة الثانوية، حيث كنا نكتب ونفهم، ثم نجد من الوقت ما كفي لنحلم أحلام اليقظة.
مع بداية توقفي على الكتابة، كنت فعلا أسطيع متابعة الدرس بشكل أفضل، و أحصل بذلك على وقت إضافي لفهم البراهين ومتابعة المجرى المنطقي للدرس. لكنني بدأت، لسبب كنت أجهله، بالشعور بجالة من الاتوازن بالقصل: عظام مهشمة كل صباح، ورأس ثقيلة، وجفنان أثقل.. جفنان من النوع الذي لا يستطيع أن يبقى مفتوحا إلا بأشرطة لاصقة تشجده إلى الجبهة. وأصبح معتادا بين الفينة والأخرى أن تجد رأسا قد سقطت على الطاولة وصاحبها يغوص في أغوار النوم منافسا هوض كوستو لأعالي البحار.. ولا بأس بين الفينة والأخرى بأن نسمع بداية سمفونية الغطيط الخامسة، قبل أن يتداركها الطالب المجاور لمصدرها بلكزة محترمة من النوع دفن الكوع في البطن، فيستيقظ النائم وهو لا يعرف الشمال من الجنوب.
نحرج من الفصل في الثانية عشر زوالا.. طبعا لا وقت للتفوه كفرس النهر، فقد بدأ الماراثون الدولي الرابط بين الفصول والمطعم.. الكل يمشي بسرعة، وقد يركض، عسى أن يجد لنفسه مكانا بالصفوف االأمامية، مختصرا وقت انتظار شنيع، ورابحا دقائق إضافية في قيلولته المرتقبة.
نلتهم المزيد والمزيد من الصودا، تلك المادة التي يضعونها سرا في الطعام لأنها تسرع من نضجه بوتيرة كبيرة.. إن الصودا يا سادة هي ذبابة تسيتسي المركز. إن تأثيرها المنوم لا يختلف فيه اثنان، ولاتتناطح عليه شاتان..
أصعد بسرعة إلى غرفتي لسرقة ما قدرني الله عليه من نوم قبل أن يصل وقت الحصة المسائية.. وهناك، أجد (عبد الله) رفيق غرفتي إن كنتم تذكرونه، ممدا فوق سريره وقد وصل إلى الشوط الثاني من مباراة السبات النهاري. تجرأت ذات يوم وتمنيت أن أصل قبله إلى السرير في منتصف النهار، لكنني لم أستطع قط تحقيق هذا الإنجاز لأن (عبد الله) صاحب رقم قياسي في الألعاب الرباعية: الخروج من الفصل.. الوصول إلى المطعم.. الأكل السريع بدون حواجز.. الصعود إلى الغرفة..
أتطلع إلى سريري بعينين مغرورقتين بالدموع.. دموع الفرحة والسعادة طبعا. فمن عاداتي بداخلية المركز أن أبكي وأصرخ مستمتعا بتلك اللحظات الأولى التي يلامس فيها ظهري السرير ويغوص به. طبعا كان شكلي يصلح كلوحة كوميدية فذة كانت تضحك (عبد الله) بالبداية، قبل أن يملها خصوصا حينما أبدأ بالصراخ وهو نائم أصلا..
إن أسرة الداخلية لعجيبة.. نوابضها تعاني من هزال شنيع، مما يجعلك تغوص بداخلها وكأنها تمتصك تماما.. ويتمركز هذا الضعف بنوابض المنطقة الوسطى بالأساس، مما يجعلك تنام في وضعية مقوسة مشابهة لوضع أرجوحة القيلولة الشهرية..

* * *
هنالك عادة شهيرة في طلبة الأقسام التحضيرية، تتلخص في جملة بسيطة: “أيقظني في (…)”.. ويمكنك أن تملأ بين القوسين هنا بأي توقيت متأخر يروق لك.. الثانية عشر ليلا.. الواحدة صباحا.. الثانية صباحا.. كان العديدون ينامون في العاشرة مساءا مثلا كي يستيظوا ليدرسوا لساعتين أو ثلاث ويعاودوا النوم.. وبعضهم قد لا يفعل..
بعضكم قد لا يفهم سبب كل هذه الإجراءات المعقدة والتي تستمر طيلة السنة.. الجواب البسيط يا سادة هو أننا كنا دوما في جو من التحضير والامتحان طيلة السنة، ومن تقاعس وتراخى تفوته محطة القطار كلها لا القطار وحده.. هذه نظرية الأقسام التحضيرية العتيدة: عمل مستمر، سهر مستمر..
أما صديقنا (مصطفى) فقد كان مدمنا على هذه العبارة، وإن كان يستعملها بنوع من الخشونة والتلاعب يسمحان له بإتمام النوم حتى الصباح.. نوع من التنويم المغناطيسي للضمير..
أذكر يوما إحدى طرائف الموضوع، حين طلب منا كالعادة إيقاظه في الحادية عشر مساءا. ذهبت لألبي رغبته في الوقت المحدد، وحينما ناديت عليه فتح نصف عين وهو يتطلع إلي كأنني كائن مريخي:
– قم يا (مصطفى)!
– هه!! (بصوت ناعس)..
– أنظر كم الساعة الآن..!
– هه!!!؟ (بصوت أكثر نعاسا)..
– يا بني! كم الساعة الآن؟!
إلى هنا قرر (مصطفى أن يخرج كلمة واضخة غير الـ(هه!!) العتيدة فقال:
– أظن أنها n تربيع..
و حرف النون الفرنسي يدل على عدد صحيح طبيعي رياضيا..
طبعا لم يكن الفتى يمزح، بل هو تأثير النوم ممزوجا بحمى الرياضيات.. وطبعا توفيت و(عبد الله) ورفيق غرفة (مصطفى) من الضحك بعد العبارة الفذة، والفتى ينظر إلينا بعته ذهولي غير فاهم لما يحدث.. واتضح أنه لم يكن يعي ما يقوله أصلا.
هناك حوادث كثيرة من هذا النوع، وأحيانا تميل إلى كفة الرعب الليلي حينما يستيقظ أحدهم ليسبب رعبا لشريك غرفته وينام.. والطرق هنا مبتكرة..
لكن هذه حلقة أخرى!

17 تعليق

(سمير).. (سمير).. أشياء مشابهة..

سابقا في مذكرات طالب بالأقسام التحضيرية:
مذكرات طالب باﻷقسام التحضيرية
مسار الأف ميل:خطوة البداية (1)
مسار الألف ميل: خطوة البداية (2)
جولة سياحية معتبرة(1)
جولة سياحية معتبرة(2)
جولة سياحية معتبرة(3)
يوم أول!!

دخلنا الفصل لأول مرة.. هناك طاولات منفصلة وكراسي فردية أكثر انفصالا..
حمدا لله! إنتهى عصر المكراسي الخشبية القصيرة المزدوجة الملتصقة بالطاولات، تلك التي لا تسع لا ركبنا ولا مؤخراتنا.. كراسي تعودنا عليها منذ المدرسة الإبتدائية، مرورا بالإعدادية وانتهاء بالثانوي.. وهذه الأخيرة بالذات عرفنا فيها أحد أهم أضرار النمو الجسماني.. لقد اعتبرنا هذه الكراسي دوما إحدى الطقوس التربوية التي لا يمكن الإستغناء عنها.. لذا يمكنك أن تفهم فرحتنا غير المبالغ بها، واغروراق عينينا بالدموع حينما وجدنا كراسي تحترم أجسامنا أخيرا..
كنا أربعة من الشلة إياها بنفس الفصل.. كان ذلك رائعا لاننا لم نكن بحاجة إلى الجلوس منفردين كالقردة نتطلع إلى الآخرين بترقب.. كنا قد خلقنا مجالنا بمجرد أن وضعنا أقدامنا بالفصل..
ثم…
تبا!!
ليس مجددا!
إنه هو!
أكاد أقسم على ذلك..
لكزت (عبد الله) بمرفقي، لكنه كان غارقا في الحديث مع الآخرين.. أعدت اللكزة بقوة أكبر حتى كاد مرفقي الرفيع يخترق جانبه.. هنا انتبه إلي مجبرا..
-” إنه هو..”
قلتها بنبرة يائسة..
-“من؟”
-“جهاز الراديو المتحرك..”
-“من!؟”
ألقى نظرة حيث أشرت، فحرك رأسه إيجابا وقال بنبرة من رضي بالقضاء والقدر:
-“إنه هو بالفعل..”
يقولون أن الفرنسيين أسرع وأكثر أهل الأرض حديثا.. لكن هذا الشاب، الذي سندعوه هنا (سمير) أثبت لي بما لا يدع مجالا للشك أن المغاربة يمكنهم انتزاع اللقب بسهولة..
التقيناه لأول مرة حينما أتينا لتقديم شهادة الباكالوريا في بداية الصيف.. كان وحيدا.. جالسا بجانبي و(عبد الله)، بجسده الضخم ومحفظته الجلدية الأضخم.
لست أذكر من بدأ الحديث، لكنني لن أغفر لنفسي أو لـ(عبد الله) ما حييت لو كان أحدنا من فعل.. فقد كان ذلك إيذانا ببدء قناة (سمير) الإذاعية المتحركة..
استبسلنا بتحمل الأمر ما يقارب الساعتين ريثما نتمم إجراءات التسجيل ونفر بجلودنا.. وحينما أتت لحظة الأمل بالخلاص، أطلق (سمير) آخر مدافعه المبيدة للبشر بأن أصر، وكاد يحلف أغلظ الأيمان وأرفعها، بأنه ولابد مرافق لنا في جولتنا بأكادير لهذا اليوم..
أمام شخصية كاسحة كـ(سمير)، لا يمكنك أن ترفض شيئا.. ليس لأن شخصيتك ضعيفة، أو أنك لا تملك الحزم الكافي للرفض، بل لأنه يحرمك حتى حق التفكير بأن يمتص الأوكسيجين من محيطك ويخنقك ويصيبك بصداع قاتل، تصبح معه مجبرا على الموافقة فقط كي يخرس قليلا.. لكن أملا كذلك كان بعيد المنال..
أخَذَنا في البداية إلى مقر إحدى الجمعيات ذات الأسماء مرعبة الطول من طراز: “الجمعية الرياضية الثقافية الإجتماعية لرعاية الطفولة المحرومة والرجولة المفقودة اقتصاديا وسياسيا وسوسيو ثقافيا”..
إن سمير من الجنوب.. لكن لديه معارف بالميدان الجمعوي والحزبي أينما ذهب..
أذكر من ضمن شلال المعلومات الذي سكبه في آذاننا أنه عضو ببرلمان الطفل.. كنت قد نظرت إليه حينها باستهجان وأنا أزن عرضه قبل طوله.. لو كان هذا الفتى كله طفلا، فلا بد أنه كان في جسد يافع حينما ولد مباشرة..
طبعا لم أخبره بهذه الملاحظة لأسباب يطول شرحها.. وعلى العموم هو لم يكن يعطينا فرصة للتنفس فما بالك بالحديث..
وأخيرا حدثت المعجزة وافترقنا.. ويمكنك أن تقول بضمير هانئ أننا فررنا تقريبا بعد أن ابتدعنا جميع أنواع المسببات وتذرعنا بأشنع الذرائع..
قلت لعبد الله ونحن نكمل طريقنا فوق الرمال ونستمتع بنعمة السكون:
-“هل تسمع؟”
أجابني مباشرة:
-” الطنين..”
-“هو ذاك”..
صدقوا أو لا تصدقوا.. كان هناك طنين بآذاننا يشبه تماما ذلك الذي يلي الجلوس بجوار مكبر صوت قوي في عرس من الأعراس، حيث يتمتع المغني بخرم طبلة أذنك بصوته الشجي، وأغانيه الشعبية الفذة..
تفهمون الآن سبب حالة الإحباط التي أصابتنا حينما وجدنا الفتى معنا في نفس الفصل. إن أشنع كوابيسنا كان قد تحقق أخيرا.. ظننته لن يتواجد لفترة لا بأس بها لأنه سيظطر للسفر إلى أمريكا لسبب من الأسباب الجمعوية الحزبية الخرافية تلك.. لكنني اكتشفت فيما بعد أن شلال الحديث ليس موهبته الوحيدة.. و أنه يتمتع بموهبة استعراضية فذة من طراز “انظروا إلي”..
رغم كل شيء.. ورغم عيوب الفتى الفذة، فأنا مقتنع، وربما أكون الوحيد، أن الفتى طيب القلب.. ولقد كنت أحد أصدقائه القلائل دوما.. فهل كان يعتبرني كذلك؟

* * *

دخل الأستاذ الفصل أخيرا.. وكأي أستاذ رياضيات يحترم نفسه، كان أرفع من عصى مكنسة.. ولم يكن يهتم بمظهره كثيرا، لدرجة أنه في فترة من الفترات كان يترك لحته تنموا بشكل مجعد دائري غير عادي.. ولو فصلت رأسه عن جسده حينها فستجد صعوبة بالغة لتعرف مكان شعر الرأس من شعر الذقن..
كان مدخنا حريفا..
كان قاطرة بخارية قديمة..
بل كان كبركان (كيليمانجارو) ذاته..
لم يكن يدخن النيكوتين، بل يأكله.. فلم أر بحياتي من ينهي سيجارة حتى العقب في أربع أو خمس شفطات سواه..
كلما استعصى عليه برهان ما، يخرج لدقيقتين أو ثلاث كي يمتص سيجارة، يرمي العقب من الرواق نحو ساحة بالأسفل، ويدخل ليجد الحل مباشرة.. ولكم أن تتصوروا فراش أعقاب السجائر الذي كان يكسوا المنطقة التي يرمها بها.. هذا لو تبقى منها شيء أصلا.. لو كانت الأعقاب تبتلع، لفعلها الرجل بدون تردد..

حين ننام كأجولة البطاطس

3 تعليقات

يوم أول!!

قد بدأت أقدامكم تتورم من طول الجولة.. أعرف ذلك.. كما بدأت أملها أنا أيضا.. والدليل أنني أتعذب لكتابة هذه الحلقة.. لذا قررت أن أنهي الجولة هنا على الرغم من أننا لم نكلمها بعد.. سأدعكم تكتشفون باقي الأمكنة رويدا رويدا..

سابقا في مذكرات طالب بالأقسام التحضيرية:
مذكرات طالب باﻷقسام التحضيرية
مسار الأف ميل:خطوة البداية (1)
مسار الألف ميل: خطوة البداية (2)
جولة سياحية معتبرة(1)
جولة سياحية معتبرة(2)
جولة سياحية معتبرة(3)

انتهى جو الاستجمام الذي حظينا بها نهاية الأسبوع قبل بداية الدراسة.

إنه اليوم الأول.. كل شيء يبدو جديدا غريبا.. كأننا في أضغاث أحلام..

استيقظنا بقوة الإرادة فقط في السابعة صباحا.. نزلنا للفطور بعد التزود بالسكين الأثرية..

حقا!! لم أحدثكم عن هذا بعد..

كان لنا الحق في الحصول على غطاء من النوعية التي استعملها الجنود أيام الحرب العالمية الأولى.. ذلك النوع من الأغطية التي تقاوم البصق عليها بصعوبة، فما بالك لو أخبروك أنك ستتدثر بها. لقد أحضر كل منا أغطيته ومخدته معه، إلا اللذين كانوا يملكون تصورا ورديا عن المكان.. وهؤلاء كان سيصبح لديهم تصور أسود من البترول عن أ/راض الجلد والحساسية لو لم يسارعوا باقتناء أغطية مناسبة.

الشيء الوحيد الذي كانت تصلح له أغطية المركز هو الفرش على أرضية الغرفة، وقد كانت هذه جريمة يعاقب عليها القانون المدني في المركز -ممثلا بـ(بعبول)- بالحرمان من هذه الهبة الرائعة.. وهو الشيء الذي لم نكن نبالي به كثيرا لو لاحظتم.

كانت هناك أيضا المخدة المقرفة التي لو وضعت عليها وجهك فلن يكفيك بعدها غسل خدك بماء النار (الماء القاطع) كي تشعر بالنظافة من جديد.

ثم هنالك الإزار الأبيض الذي لم يعد كذلك، والذي ينطبق عليه نفس تأثير المخدة..

أما الهبة الفريدة التي أنعموا علينا بها، فهي شوكة وسكين من العينة التي استعملها أبرهة الحبشي قطعا في يوم من الأيام.. هل تعرفون ذلك النوع من السكاكين الذي يمكنك أن تحاول قطع شرايينك به بأقصى قدر من الأمان؟ ذلك النوع الذي يفشل في تقطيع زبدة ساخنة؟ كان هذا إحداها..

ونظير هذه الخدمات الرائعة طبعا، كانا مجبرين على دفع مائة درهم، أي ما يعادل اثنتي عشر دولارا ونصف تقريبا، ككفالة.. وهذا بغض النظر عن كوننا أخذنا هذه الأغراض أم لم نفعل.. وعند ضياع الشوكة أو السكين مثلا فيمكنك أن تقرأ سلامك للكفالة بأكملها.. أما لو تسببت بضياع شيء أكبر حجما فحينها ستدفع ثمنه زيادة على الكفالة بالعملة الصعبة طبعا..

تفهمون الآن لماذا لم نعد نأخذ السكين أو الشوكة إلى المطعم.. إنهما من النوع الأثري الذي يصعب إيجاده في السوق.. لذا لا داعي للمخاطرة.. إن اثنتا عشر دولارا تساوي خمسة كتب جيدة في نهاية السنة الدراسية..

إن المتحمسين لحمل السكاكين يدفعون ثمن ذلك غاليا في الفطور بالمطعم حينما يبدؤون بالبحث عنها بعد إقراضها مجبرين لآخرين أمثالي..

اتجهت إلى سلة الخبز، والتقطت نصف رغيف.. ثم رنوت على الطاولة المجاورة حيث وضعت مستلزمات الفطور.. وتتلخص هذه في إناء به مربى، و صحن به قطع ضخمة من الزبدة.. قطع صلبة بفعل البرودة بشكل تحتاج معه إلى شيء أكثر من الإرادة والنوايا الطيبة كي تستطيع دهن رغيفك بها.. وهذا ما يجعلك مجبرا على وضعها متقاربة فقط وسط الرغيف قبل أن تقضمها كالجبن..

أفطرت و(عبد الله) ثم عدينا إلى الغرفة.. لملمت دفترين في حقيبتي الجلدية.. ومن ثم اتجهنا مبكرين إلى الجناح الدراسي..

إن مركز الأقسام التحضيرية يقاسم مدرسة ثانوية المكان.. هذا يعني أن هناك جناح خاص بنا، وجناح خاص بطلبة الثانوي.. لكننا جميعا كن نتقاسم الساحة.. وهذا ما شكل أملا كبيرا لدى الشباب لمصادقة فتيات حقيقيات بدل المخلوقات المرعبة التي كانت تدرس معنا..

قبل أن تبدأ الفتيات بإلقاء الطماطم علي، أو تدخل إحدى المحمسات لترد علي بأنني سافل، أو أي ردة فعل مبهجة من هذا القبيل، أريد أن أنوه هنا أنني أتحدث عن رأي السواد الأعظم من الشباب في تلك الفترة..، ولا أتحدث عن رأي خاص..

أرى عيونا خبيثة، بعضها يقدح شررا، تنظر إلى شذرًا، وتسأل: ما رأيك أنت إذن؟

لن أحاول التهرب من الرد حفاظا على حياتي..

ليس لدي اعتراض حقيقة على الفتيات اللواتي كن يدرسن معنا.. بعضهن يستحق الاحترام والإعجاب معا.. لكن الشيء الوحيد الذي كنت أؤاخذه على أغلبيتهن هو أنهن لا يتبسطن في تعاملهن.. بل كن ينظرن إلينا باحتقار غير عادي.. قد أكون مخطئا أو مبالغا، لكن الغالبية كانت تعاملنا بنوع غير مفهوم من الترفع، وتواجهن أية محاولة للتقرب منهن، ولو على سبيل الزمالة، كأنها محاولة سبي.. و أنا لا أتحدث عن نفسي هنا بالمناسبة، فقد كنت سلبيا إلى درجة غير عادية خلال تلك الفترة بالذات.. لكنني كنت ملاحظا جيدا، ومتابعا خبيرا للأحداث..

وفي نفس الوقت، كانت فتيات الثانوي ينظرن إلينا كأننا مخلوقات خرافية قادمة من كوكب العلم الأوحد.. لذا كان اختيار الشباب واضحا ومبررا..

حان الوقت للدخول إلى القسم!!
لكن هذه حلقة أخرى..

تابع القراءة: سمير.. سمير.. أشياء مشابهة

15 تعليق

جولة سياحية معتبرة (3)

سابقا في مذكرات طالب بالأقسام التحضيرية:
مذكرات طالب باﻷقسام التحضيرية
مسار الأف ميل:خطوة البداية (1)
مسار الألف ميل: خطوة البداية (2)
جولة سياحية معتبرة(1)
جولة سياحية معتبرة(2)

حسنا.. جاء دورنا لتجاوز بوابة المطعم لنلتحق بالطابور الداخلي..

لا تقلقوا.. لن يمنعكم أحد من الدخول لأنكم غير مرئيون.. وهذا يعني أيضا أنه لن يحق لكم الحصول على نصيب من الوجبة.. وهذا حسن حظ أحسدكم عليه..

إن الرائحة مقرفة.. أعرف ذلك.. هذا راجع إلى الخليط غير المتجانس الذي يصرون على أ، يطبخوه هنا.. تصوروا كيف يكون طعم ورائحة الفاصوليا المصبرة حينما يقرر أحدهم طبخها.. لا أستبعد أن نجد يوما سمكا مصبرًا مشويًا..

علي إذن أن أحمل صفيحة حديدية بها فراغات مختلفة المقاسات، من النوع الذي يستعمله المساجين عادة، و أن أتقدم في طابور طويل كي أحصل على تشكيلة من الأشياء التي يصرون على أنها تؤكل.. إن الفرق بين المكان وبين السجن البلدي ضئيل حقا.. ولو كنت ممن لم يألفوا ارتياد المكان لما استطعت أن تفصل بينهما..

المحطة الأولى: (منطقة السلطات، بتشديد السين وفتحها)..

هنا تقدم جميع أنواع السلطات المفتخرة، ولا تنسوا تشديد السين وفتحها كي لا أعاني من مشاكل سياسية .. فمن قطع الخيار الديناصورية المنقوعة في المياه المعدنية إلى قطع الجزر والبطاطس المسلوقة التي لا يمكنك أن تميز جزرها من بطاطسها. وتبقى السلطات على العموم إحدى العناصر القليلة التي تؤكل بضمير مرتاح..

المحطة الثانية: (منطقة أشباه اللحوم البيضاء والحمراء)..

هنا يقدم ما يلي:

– شرائح لحم بقري (مع قدر لا بأس به من الارتياب)، ذات سمك شبه منعدم، ملتصقة بشرائح جلد ذات سمك وصلابة لا بأس بهما بما يكفي للإيحاء بالكم.. والهدف من هذا تقوية أسنان الطلبة وعضلات أذرعهم عبر حركات الشد التي تهدف إلى تجزئة الشرائح لتيسير المضغ..

طريقة الاستعمال: ضع طرفا بين أسنانك، وامسك بكلتا يديك بالطرف المقابل.. ثم شد بكل قوتك نحو الأسفل.. حذار من أن ينزلق الطرف من بين يديك لأن اللسعة التي سيستقبلها وجهك لن تكون محببة إلى النفس. وحين تصل يداك إلى أقصى اتساع لهما دون نتيجة، يمكنك حينها الاستعانة بقدميك لمواصلة الشد.. لذا ينصح بغسلهما مع اليدين قبل الدخول.. كما يمكنك أن تبتلع الشريحة قطعة واحدة لو كنت لا تملك الوقت لهذا الهراء، وتترك للمعدة إكمال البقية..

– كويرات مجهرية من الكفتة مع طن من صلصة الطماطم.. مهمتك أن تبحث عن الكفتة وسط الطماطم لو كنت من أقوياء النظر.. أما لو كنت من ضعافه فابتلع الصلصة كلها فالكفتة فيها لا بد واجد..

– قطع دجاج.. وعلي هنا أن اعترف أنها أفضل أكلة تقدم من حيث جودة الطبخ.. فقط عليك أن تجد قطعة مناسبة يتفوق فيها وزن اللحم على العظم.. وهذا ممكن بشيء من العسر لو كان (عزيز) هو الذي يقدم القطع.. فقط عليك حينها أن تمحو من ذاكرتك مشهد صدره المشعر الغارق في العرق، والذي يصر على إبرازه وهو ينحني ليحضر لك قطعة الدجاج المطلوبة.. اعتبر قطرات العرق هذه كنوع من التوابل أو المخللات لتحسين المذاق.. أما لو لم تكن وافر الحظ فستلتقي بذلك الكهل الذي كره الدنيا وكرهك معها.. حينها لا تحاول أن تحتار القطعة لو كنت من النوع المسالم، فهو يقدم لك ما يريد ويرميه ف صفيحتك كأنه يقتطعها من لحمه الخاص.. ولا بأس بنظرة ازدراء عابرة لإتمام اللوحة.. وفي فترة من الفترات اختفى العجوز لمدة لا بأس بها.. فتساءل أحدهم عن مصيره، وحينما لم يجب أحد قال الفتى أنه يشك في أن اللحم الذي يقدمونه لنا مؤخرا هو لحم الكهل لأنه يبدو هرما بالفعل..

المحطة الثالثة: (منطقة الوجبة الثانوية)

– سواء كانت عدسا أو لوبيا، أنصح بالابتعاد عن المكان.. إن هما إلا سببان أساسيان لتعاظم غازات البطن.. وحينما يأتي يوم منحوس تكون فيه الوجبة الأولى مقرفة، ويقرر الجميع تناول أحدهما، حينها يلتزم الجمع بعدم إشعال أعواد الثقاب أو ما شابه في العنابر خشية انفجار نووي..

– ثم هنالك قطع البطاطس المقلية.. ومع هذه أنت وحظك.. فتارة تكون ذات حجم هائل لكل قطعة، مما يجعلها غير مطبوخة على الإطلاق من الداخل، مع ملاحظة إنك لن تحصل سوى على أربع او خمس قطع على الأكثر.. و تارة أخرى تكون عبارة عن نوع من الفحم الحجري الممتاز، وهذا حينما تحتج على أنها لا تطهى بما فيه الكفاية..

المحطة الرابعة والأخيرة: (منطقة الفواكه وأشباهها)..

هنا تجد، حسب المزاج، في كل مرة فاكهة من نوع ما.. والقاسم المشترك بينها أنها إما غير ناضجة دوما، أو من النوع الذي يتركه الباعة وراءهم بعد انتهاء السوق: تفاح عليه ندوب من مخلفات الحرب العالمية الثانية، أو موز معوق يمكن شربه مباشرة دون مضغه، وأشياء من هذا القبيل..

هذا في وجبة الغذاء.. أما في العشاء فتجد إما كأس زبادي، أو ما نصطلح على تسميته ب(دانون).. وهذا أفضل قطعة كاملة يمكنك الحصول عليها.. غير هذا هناك كأس مياه غازية، أو كأس أي مشروب حليبي.. وطبعا الكأس بلاستيكية تبدو كأنها كانت تستعمل من قبل التتار أيام مجدهم..

وكإضافة مجانية، يمكنك الحصول على (الحريرة)، وهي نوع من الشربات المحلية الثقيلة.. فقط على من شربها أن يصعد لغرفته بأقصى سرعة، ويحضر سريره ويتمدد قبل أن يسقط في غيبوبة النوم وهو واقف.. إن مادة الصودا عنصر أساسي في كل وجبة وذلك كي تطهى بسرعة، لكن الكمية التي يضعونها في الحريرة خرافية بالفعل..

سؤال وجيه: هل يضعون الصودا في المياه الغازية والمواد الحليبية أيضا؟ بدأت أشك بذلك حقا..

حاملا صفيحتي المحملة بما لذ وطاب مما سبق ذكرهن سنتجه للبحث عن وجه من الوجوه التي اعتدت مجالستها.. هاهي ذي الشلة المعتادة وقد اكترت طاولة خاصة بها كالعادة..

أجلس و أتطلع بتقزز إلى الأكل.. أحاول أن أستخلص منه ما يصلح للأكل.. ثم أتطلع إلى السوق البلدي الذي يحيط بي.. نحن المغاربة لا نستطيع أن نجلس لنأكل بهدوء قط، فكل موضوعات الدنيا تناقش على مائدة الطعام.. وهذا لا يعني أننا نتوقف عن الأكل.. إن عادة الكلام بفم ممتلئ هي عادة صحية لدينا بخلاف كل ما يقوله الأطباء المتخلفون..

وكما جرت العادة، لا بد أن نمتع آذاننا بصوت العشرات من الصفائح الحديدية التي يوقعها (الحسن) أرضا كنوع من التقاليد.. لكم أن تتخيلوا قوة الصوت وتردده في قاعة كبيرة كهذه.. يمكننا بشيء من التسامح أن نشبهه بصوت قصف الرعد.. ماذا يفعل (الحسن) بالصفائح؟ طبعا يغسلها بالمياه الساخنة و بمكنسة.. نفس المكنسة طبعا هي المستعملة غالبا لكنس العنابر.. فبالهناء والشفاء يا شباب!

تابع القراءة: يوم أول!!

 

21 تعليق

جولة سياحية معتبرة (2)

سابقا في مذكرات طالب بالأقسام التحضيرية:
مذكرات طالب باﻷقسام التحضيرية
مسار الأف ميل:خطوة البداية (1)
مسار الألف ميل: خطوة البداية (2)
جولة سياحية معتبرة(1)

لو قارنتم غرفتنا بأي غرفة أخرى بداخلية المركز فستكتشفون فورا أنها ذات طابع منزلي محبب إلى النفس.. ربما يفسر هذا سر تجمع الشباب الدائم لدينا في جلسات سمر، متحلقين حول براد شاي ثقيل ساخن من الذي يتقنه صديقنا (محمد)..
لقد جعلنا من الغرفة مكانا أليفا خصوصا مع آيات قرآنية لخطاط فنان علقت بالحائط بجوار صورتين كبيرتين متقابلتين، إحداهما للكعبة والأخرى للقدس.. بالإضافة إلى (الموكيت) الأخضر – ولا أجد ترجمة مناسبة للكلمة – الذي يكسوا الأرضية..
حاولوا أن تتمتعوا بالغرفة بهذا الشكل قبل أن تعود إلى الحالة الطبيعة لها، والتي تتلخص في كويرات متعددة من مواد مختلفة مرمية هنا وهناك: كويرات من ملابس، وكويرات من أوراق، وكويرات من قشور، وكويرات من أشياء لا تدري كنهها لكنها موجودة..
اعتبروا الغرفة لكم إذن.. فقط عليكم أن لا تنسوا أنها غرفتنا.. وهذا يحتم عليكم نزع أحذيتكم قبل الدخول..
لا داعي لأن تخجلوا من منظر أصابعكم وهي تجاهد كالمساجين للفرار من الجوارب المثقوبة، فما نحن إلا طلبة نتفهم مثل هذه الأمور.. كما لا داعي للقلق بشأن رائحتها القتلة لأن المراحيض تكفلت بقلب مفاهيم الشم لدينا بشكل يجعل أي رائحة كانت تبدو أشبه بالعطور الباريسية الفاخرة بالمقارنة..
تفضلوا بالجلوس.. فليشغل اثنان منكم الكرسيين الخشبيين، وليصطف الباقون فوق السريرين.. حاولوا فقط أن تتركوا منتصف فارغة حتى لا تتقوس تحت ثقل أوزانكم.. إن نوابضها ليست على ما يرام.. وقد يبدو سريري على ما يرام نوعا، لكن سرير (عبد الله) قد بدأ بالتحول إلى نوع من منامات المخيمات التي تعلق بين شجرتين.. تعرفونها طبعا..
الحقيقة أن لا شيء يهم حينما تكون هنا.. فبعد يوما دراسي حافل، ومع تأثير أطنان الصودا التي يصرون على وضعها في الطعام، يكفي أي وضع أفقي أو حتى عمودي، كي تغرق في سبات يتفوق على عمق سبات الدببة القطبية.. (يقول (بعد الله) أنه يغرق في النعاس بمجرد وضع رأسه على المخدة.. أما أنا فلا أذكر يوما متى وضعت رأسي على المخدة مما يجعلني أظن أنني أغرق في النعاس ورأسي في الطريق إليها..
إن النوم هو الخصم اللدود والمرض الشعبي بالمركز.. يمكنك أن تظن، وأنت مرتاح الضمير، أن المركز مليء بمستعمرات ذبابة تسيتي، ولن يخالفك أحد الرأي.. لكن التأثير المميت يختلف فقط من شخص لآخر..
ذات يوم قررت و(عبد الله) أ ن نأخذ قيلولة من النوع الطويل.. قيلولة من النوع الذي يستمر حتى الساعة الرابعة بعد الزوال.. ضبطنا كل شيء.. منبهات الهواتف المحمولة.. منبه ساعتي اليدوية.. وآلة إيقاظ الموتى التي يصر (عبد الله) على تسميتها بمنبه.. تعرفون ذلك النوع من المنبهات الذي يمكنه أن يكسر الزجاج بصوته؟ هو ذاك..
سبحنا في ملكوت الله حتى الرابعة.. فطفق كل شيء يرن.. زلزال صوتي لا يبقي ولا يذر..
وهناك، بجانب كل هذا الضجيج كان مخلوقان متمددان لا يحركان ساكنا، وكأنهما ينامان تحت صوت موسيقى كلاسيكية هادئة..
صدقوني.. لقد حاولت أن أقوم.. لكنني فشلت فشلا ذريعا..
انطفأت منبهات الهواتف بعد أن ملت، ولم يجد منبه الساعة اليدوية، بصوته الضعيف، مكانا وسط الصخب المدوي، فخرس بدوره.. لكن آلة إيقاظ الموتى كانت مصرة على الاستمرار.. والمشكلة أننا وضعناها في منتصف المسافة بيننا كي لا نخرسها ونعود للنوم..
تمكنت بصعوبة من أن أفهم أن الصوت المزعج هو صوت المنبه.. وحينما قررت أن أقوم لأخرسه انطفأ الضوء الإلهي من أمام عيني.. ثم أحسست أن هناك صوتا مزعجا بالمكان.. وحينما فهمت مجددا أنه صوت المنبه كنت قد غرقت مرة أخرى في النعاس..
ما فهمته بعدها هو أن المنبه بقي يرن لربع ساعة، لابد أننا حصدنا فيها كل اللعنات الممكنة من طرف الجيران، قبل أن يتمكن (عبد الله) بمعجزة ما من أن يقوم بمجهود خرافي ليصل إلى المنبه ويخرسه، قبل أن يعود ليواصل النوم حتى الليل..
هناك حكايات أخرى من هذا النوع لدى العديد من الأصدقاء، أتركها للتفصيل في حلقة أخرى..
دعونا ننزل.. فهذا وقت وجبة العشاء..
لا داعي للدهشة! أجل.. اعرف أنها السادسة والنصف فقط.. و أعرف أن أية دجاجة تحترم نفسها تنام بعد هذا الوقت بكثير.. لكنها الحتمية (البعبولية) التي تلعب دورها..
أخخخخ!!
لقد وصلنا متأخرين.. فهاهو ذا الطابور الثعباني قد تشكل وتلوى حسب المسار المفروض..
أزواجا.. هكذا نقف للأسف كتلاميذ المدارس الابتداية قبل الدخول للمطعم.. وهي تشكيلة إجبارية من طريف الناخب الوطني (بعبول الزاكي) الذي يقف بنفسه رفقة لجنة مراقبة رسمية مكونة من بعض المعلمين..
وطريقة الدخول إلى المطعم تكون عبر مجموعات.. يقومون بدور السدود التي تسمح بمرور كمية من الطلبة حتى يبدأ الصف الداخلي بالامتلاء ثم يوقفون التدفق..
أجل.. كما سمعتم.. هناك طابور بالخارج وطابور بالداخل، وكأننا نستخرج أوراق إدارية في مصلحة سريعة الأداء بشكل قاتل..
ولكم أن تخمنوا أنهم سيوقفون التدفق حينما أصل شخصيا إلى المدخل.. إن هذا حتمي كما يحدث في الأفلام الأمريكية الرخيصة..
إن بطني تزغرد.. لكن الرائحة المنبعثة من الداخل غير مشجعة على الإطلاق!
تبا مجددا!

تابع القراءة: جولة سياحية معتبرة(3)

 

4 تعليقات

جولة سياحية معتبرة(1)

سابقا في مذكرات طالب بالأقسام التحضيرية:
مذكرات طالب باﻷقسام التحضيرية
مسار الأف ميل:خطوة البداية (1)
مسار الألف ميل: خطوة البداية (2)

منذ قرون وأنا أتمنى أن أبدأ يوما بكتابة يومياتي..
لست هتلر.. ولست طه حسين.. ولست شعبان عبد الرحيم.. لذا لا أجد تدوين يومياتي سيعود بفائدة أكثر من أن أستطيع تقديم إحصائية دقيقة عن عدد المرات التي نسيت فيها غسل أسناني، أو عدد حالات الإسهال وعسر الهضم التي أصبت بها عبر سنوات حياتي.. وهذه معلومات لن تهم سواي ووزارة الصحة على أبعد تقدير..
أنا فقط أجد أن بعض الذكريات التي تستحق أن لا تنسى تبدأ بالذوبان بهدوء وراء خلفية تسارع الأحداث المستقبلية..
أعاني الآن لاعتصار ذكريات السنتين اللتين قضيتهما بمركز الأقسام التحضيرية بأكادير.. و يبدو أنني سأبدأ عما قريب بالاستعانة بالذاكرة الجماعية..

سنقوم الآن بجولة بالمركز.. ستكونون سياحا مزيفين، و سأكون دليلا أكثر زيفا.. هكذا لا مجال لأن يتابعني أحدهم قضائيا..
علي من الآن أن أبدأ باستعمال أسماء مستعارة لبعض من سيرد ذكرهم خلال هذه المذكرات.. هكذا أتفادى أن يشج أحدهم رأسي في أول فرصة..
فلنبدأ الجولة أعزائي من مدخل الداخلية..
لا داعي للقلق من ذلك المخلوق الكلبي الذي يقبع هناك.. لقد سبق وحدثتكم عنه.. سنمر بجانبه بكل هدوء، وسيقوم هو بدوره بالنباح على سبيل تأدية الواجب، وذلك كي يعطيهم سببا كافيا للإبقاء عليه بالمركز..
هذا المخلوق يروقني.. ذات مرة طارد قطيعا من الأغنام يمر بالجوار البوابة دون أن تعيره أية شاة أدنى اهتماما.. إنه عديم الشخصية بالفعل، رغم أنه مغرم بأفلام الويسترن الأمريكية على ما يبدو..
أول مبنى على اليسار هو غرفة (الحسن).. و (الحسن) هذا هو سدادة ثقوب المركز.. هو في الأصل حارس البوابة، لكنه يمضي أوقات فراغه بشكل إجباري في غسل أواني المطعم وكنس ومسح أروقة العنابر، وممارسة جميع انشطة التجسس والمراقبة على الطلبة والموظفين على حد السواء..
إن (الحسن) رجل مستحيل المركز بامتياز.. وفي الليل أو العطل لا مانع من أن يشارك الأخوة السياح في ممارسة الفساد المحلي.. والغرفة الصغيرة بجانب البوابة تفي بالغرض.
غضوا الطرف عن المبنى المجاور على اليمين، حيث كتبت عبارة “المصالح الاقتصادية”.. دعوني صامتا فقد أقبل أي اسم عدا المصالح.. ما رأيكم بالمفاسد أو الفضائح؟
دعونا أيضا نتجاوز هذه السلالم اللولبية التي لم يفهم المسئولون أهميتها في الحياة، فأقفلوا الأبواب المؤدية إليها..
نمر الآن بجوار مكتب من غرفة واحدة وردهة تفضي إليه، حيث كتب بخط عريض: “مصحة”..
هذا هو مكتب الحارس العام للداخلية (رمزه الكودي بعبول)، ولا داعي لأن تسألوني عن العلاقة.. فمن البديهي أن (بعبول) يمارس النشاطين.. وعلى العموم يعد نشاط المصحة بسيطا ثانويا لا يثقل كاهله، فهو يتلخص في تقديم قرص سحري يسمى (فوٌار).. لا وجود لاسم تجاري عملي على غرار (باراسيتامول) أو (أسبيجك).. فقط كلمة (فوار) تستفزك فوق الغلاف اللامع للقرص..
كيفما كان مرضك، ففي فوار علاجك.. لدرجة أن بعض الفتيات قرروا استخدامه بدل حبوب منع الحمل، لكنه فشل في هذه النقطة.. وسأتحدث عن التفاصيل فيما بعد..
وبما أن هذا عصر التجاوز، فسنتجاوز المطعم والخزانة والنادي إلى أن نعود إليهم لاحقا.. سنتجه مباشرة إلى العنابر كي نمدد أجسادنا قليلا..
أنا أقطن بالطابق الأول لحسن حظكم، لذا لن تتعبوا للوصول إلى الطابق الثالث.. ما بكم تنظرون إلي بهذه الطريقة؟ لقد نشأت في بلدة صغيرة تعد فيها المباني ذات الطابقين ناطحات سحاب!!
لا داعي لإطالة الوقوف في الردهة المقابلة لبوابة الطابق، فمفعول صواريخ الهواء هناك قاتل..
إليكم خارطة الطابق: 犀利士
a9-%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%ad%d9%8a%d8%a9-%d9%85%d8%b9%d8%aa%d8%a8%d8%b1%d8%a9/mara7id” rel=”attachment wp-att-847″>mara7id
نصيحة أخوية صادقة: اقطعوا أنفاسكم على طول الرواق الرئيسي الذي يمر بالمراحيض.. إنها تنظف مرة كل أسبوع تقريبا، وهذا كاف لجعلها منطقة تلوث إشعاعي، خصوصا مع الشباب الواعي المثقف الذي يمارس رياضة التبول عن بعد، والتي تتلخص في محاولة التصويب على ثقب المرحاض وأنت واقف على بعد متر من الباب..
ها قد دخلتم جناح (تيزنيت)، وها أنتم الآن أمام باب الغرفة.. سنحاول فتحها بهدوء لأن المقبض بدأ بالتشقق رغم أننا اشتريناه للتو.. لا أنا ولا (عبد الله) نملك أصابع هرقلية لو كنت تفكرون بذلك.. فقط هذا مثال عملي حي عن المثل الشعبي الذي يقول: “عند رخصو تخلي نصو”..
تفضلوا بالدخول!….

تابع القراءة: جولة سياحية معتبرة(2)

 

12 تعليق

مسار الألف ميل: خطوة البداية (2)

سابقا في مذكرات طالب بالأقسام التحضيرية:
مقدمة مملة لابد منها
مسار الأف ميل:خطوة البداية (1)

-” إلى اللقاء..”
قلتها و أنا أخرج حقائبي عند البوابة الخلفية للمركز حيث مدخل الداخلية..
تطلعوا إلي جميعا في استنكار قبل أن تقول والدتي:
-” أتينا إلى هنا جميعا، ونتركك قبل حتى أن تتم إجراءات التسجيل وتستقر؟”
آخ.. هذا ما كنت أخشاه.. الشاب الوحيد الذي رافقه أهله كأي طفل صغير كي يطمئنوا عليه في مكمنه الجديد.. أيٌ فضيحة أكبر من هذه في اليوم الأول بالمكان؟
أعدت الحقائب إلى الحقيبة الخلفية للسيارة، وركبت من جديد قائلا:
-“في هذه الحالة، فلندخل بالسيارة إلى الداخل كي نقترب أكثر!”
لم يكذب أبي خبرا، فأعاد إدارة المحرك قائلا:
-“حسنا.. أتعشم أن يكون دخول السيارة إلى المكان مسموحا!”
أغمضت عيني ونحن نجتاز البوابة وأنا موقن أن الفضيحة وشيكة.. وحينما فتحتهما فوجئت بمجموعة من السيارات من مختلف الأنواع والأحجام متناثرة هنا وهناك.. و الأهم من ذلك، مجموعات بشرية من مختلف الأعمار والأشكال..
تنفست الصعداء أخيرا، فلست الشاذ الوحيد هنا.. بل إن السواد الأعظم من المرافَقين هنا يبدون في حالة قاتلة من الرضا عن النفس وعن الآخرين، وهم في غاية السرور كأنهم يدخلون جنة الله في الأرض..
اقترب منا شيء ما يمكننا بشيء غير يسير من التجاوز أن نصطلح على تسميته كلبا.. تطلعت إليه، وابتسمت مرغما.. ثم لم أتمالك نفسي وقد عاودتني نوبة السماجة المألوفة، فأشرت بيدي بحركة شيكسبيرية نحو المخلوق قائلا بأكبر قدر ممكن من الفخامة:
-“أقدم لكم اللورد الكابتن كلب الأقسام التحضيرية المدرٌب!”..
طبعا كان لابد من اعتراض من أمي باعتبار أن أحدهم قد يسمعني ويظنني أتحدث عنه، و أنه لا يجب علي أن أبدأ بعداوات منذ البداية، وأشياء من هذا القبيل من النوع الذي تجيده كل الأمهات طبعا..
لكن موجة السماجة كانت قد ركبت دماغي بالفعل ولم يعد أحد يستطيع إيقافي:
-“هيه!! أيها الكلب.. يا كلب!”
نظرت إليهم عاقدا حاجبي على الشكل العادل إمامي الشهير مضيفا:
-“لماذا لا يغضب؟! العجيب أنني نعته بالكلب ولم يحرك ساكنا! أليست لديه كرامة؟ إن كلاب (أكادير) لغريبو الأطوار بالفعل!”
في هذه اللحظة وصل زملائي القدامى من المرحلة الثانوية لينقذوا أفراد أسرتي من الإصابة بالفالج..
دعونا نتجاوز مرحلة إجراءات التسجيل المملة فملامحها تتكرر في كل زمان ومكان.. فلا بد من الطوابير الملتوية كالثعابين.. ولبد من موظفين متكدري المزاج دوما.. ولابد من أن تحتاج بضعة سنتيمات حقيرة كي تدفع ثمن الدمغات، وأنت كالعادة لا تملك سوى ورقات مالية من النوع السمين.. باختصار: الروتين المعتاد..

إن رفيق غرفتي القادم يسمى عبد الله، وهو صديق قديم بالفعل، لكنني لم أجرب قط أن أعاشره المسكن.. الحقيقة أنني لم أجرب قط أن أعاشر أيا كان سوى أسرتي، فلا داعي للحذلقة إذن..

رافقنا (((معلم))) الداخلية إلى غرفتنا.. ولفظة معلم هنا بين ست أقواس لأنني غير مقتنع بها، و إنما هي محاولة ترجمة حرفية لكلمة (maître) الفرنسية.. إنه ببساطة طالب بكلية أو معهد ما، وهو يقطن بداخلية المركز مقابل القيام بمجموعة من مهام المراقبة والضبط نظير أجر هزيل..

كان من المؤكد أن نجد أن شيئا ما ليس على ما يرام، خصوصا قد اجتمعت قوى النحس الخرافية خاصتي بالتي تخص عبد الله في مزيج غير مسبوق: كانت كل الغرف المجاورة سليمة إلا غرفتنا التي لا يمكن أن نسميها كذلك ما دامت لا تتوفر على قفل ما أو أي شيء يسمح لها بأن تغلق.. مجرد حاجز خشبي دون مقبض أو قفل..
التفت إلى (عبد الله) قائلا:
-“سنقطن بالسوق البلدي على ما يبدو”..
وذلك كناية عن انعدام الأمن في ظل البوابة المواربة..
والآن علي أن أعترف.. كان لبقاء أسرتي، حفظها الله لي، إلى هذه اللحظة دور كبير في حل المشكلة بسرعة.. ربع ساعة وكنا قد اشترينا مقبضا وقفلا جديدين، وتمكنا من تركيب كل شيء باستخدام العدة التي يصر أبي على أن ترافقه أينما ذهب بالسيارة.. غير ذلك كنا سنضطر للبحث عن نجار لا أدري كم كان سيقبض كثمن للتنقل، ناهيك عن أننا كنا سنقضي ما يفوق الساعتين قبل أن نشتري المقبض والقفل أصلا..
وكان لابد من أن أسمع تعليقا من طراز:
-” أرأيت؟ و أنت الذي كنت تريد منا أن نرحل بسرعة!”
ثم رحل أفراد الأسرة، بعد كم مهول من النصائح والإرشادات التي لم أعد أذكر منها حرفا بالطبع بمجرد أن غادروا..
وكانت المفاجأة المفرحة هي أنه بمعجزة ما اجتمعنا نحن القادمون الستة من مدينتي في منطقة واحدة، وهي عبارة عن ثلاث غرف متجاورة في رواق واحد خاص..
اقترح أحدهم أن نغلق مدخل الرواق ببوابة، ونعيد هدم وبناء الجدران الداخلية كي نعيد تفصيل الشقة على ذوقنا.. وقد كان محقا.. فقد حصلنا على منطقة خاصة بنا فقط عكس كل القادمين من مدن أخرى..
أمضينا الليلة في السمر طبعا والكل يداري قلقا خفيا من مصير مستقبلي مجهول..
وفي الغد كانت تنتظرنا مفاجأة مذهلة: سقوط برج التجارة العالمي..
لم نشغل أنفسنا بالتفسيرات السياسية أو التكهنات أو التوقعات.. كل ما كان يشغلنا حينها هو أننا لا نملك تلفازا نتابع فيه ما يحصل!!
تبا!!

تابع القراءة: جولة سياحية معتبرة(1)

 

14 تعليق

مسار الأف ميل:خطوة البداية (1)

سابقا في مذكرات طالب بالأقسام التحضيرية:
مقدمة مملة لابد منها

تطلعت إلى النافذة الزجاجية.. المشهد شبه الصحراوي.. وتلك الأشجار المعدودة المتناثرة على جوانب الطريق، والتي تسارع بالفرار نحو الخلف كلما طوت السيارة الطريق مخلفة وراءها المدينة صغيرة..
مدينتي.. حيث دفء السرير المألوف يصنع ألف فارق.. حيث أصوات أصدقاء الطفولة والصبى لا تزال تناجيني..حيث كنا نحن.. والآن أصبحوا هم..
متجهين إلى (أكادير)، مدينة الجن والملائكة المغربية، حاولت مستبسلا أن اتحمل أغاني ذلك الشريط الشعبي الذي تصر والدتي على الاستماع إليه كلما سافرنا.. تعرفونه طبعا.. إنه ذلك الشريط الشهير ذو الأغنية الفذة التي تقول كلماتها “وا باغي نتزوج أها.. وحتى تكبر أها.. واباغي نتزوج أها.. وحتى ترجل أها..!!”
أعوذ بالله من الحمق! أيوجد بعد على الأرض من يملك صفاقة كافية ليكتب هذا النوع من الكلمات، ناهيك عن أن يغنيه؟ وحينما أتحدث عن اللحن هنا فهذا تعبير مجازي فقط! تعرفون ذلك النوع من الألحان التي تواكب الإيقاع الشعبي المغربي الأشهر: “واحد- واحد / إثنان- واحد”.. الحقيقة أنه إيقاع يستطيع أن يحرك أطرافك، لو كنت مغاربيا، دون ان تعي ذلك.. لكن ربط كل الألحان به بنفس الطريقة الشنيعة يسبب مللا خرافيا قد يغريك يوما بقطع أذنيك ذاتها كي تكف عن سماعها..
تطلعت بحنق إلى أفراد أسرتي الصغيرة.. أبي و أمي و أختي الصغرى، والخادمة الصغيرة، التي لم تعد كذلك بعد أن أصبحت فردا من الأسرة، والذين يرافقونني جميعا في يومي الأول بمركز الأقسام التحضيرية.. كنت بحاجة إلى سيارة لنقل أمتعتي حقا، ووالدي لوحده كان سيفي بالغرض.. لكن الآخرين أصروا على المجيء معنا بحجة قضاء اليوم بأكادير، وشراء ملابس جديدة للدخول المدرسي لأختي..
فكرت حانقا أنه كان عليهم أن يرسلوا برقيات لأفراد العائلة بالوطن كي نلتقي جميعا هناك بهذه المناسبة السعيدة..
لقد كنت من النوع الإستقلالي الذي يحب أن يعتمد على نفسه، ويكون مسئولا عن كل صغيرة وكبيرة في حياته.. ولكم أكن أدرك حينها أنه سيأتي يوم أصبح فيه مسؤولا عن الدفاع عن حقوق أكثر من أربعمائة طالب بشكل سيجعلني أكره مصطلح المسئولية ذات نفسه (تطالعون التفاصيل لاحقا ب:مذكرات طالب مهندس)..

سرحت بأفكاري بعيدا..
إلى هناك..
مركز الأقسام التحضيرية (رضى السلاوي)..
تقافزت إلى ذهني عبارات من طراز: حصص قد تستمر أربع ساعات متواصلة.. امتحانات كالأساطير.. طلبة لا ينامون قبل الساعة الثالثة صباحا، ويستيقظون قبل السابعة صباحا يوميا.. العديد من حالات الإنهيار العصبي والجسدي.. صوت سرينة الإسعاف مألوف للغاية بالمكان..
أفكار سوداية أخرى من طراز: هل سأتحمل؟ و أنا الذي يجد في النوم بعد منتصف الليل إنجازا يستحق التدوين في موسوعة (جينيز) للأرقام القياسية؟ أنا الذي أعد الدراسة المتواصلة لثلاث ساعات بتركيز عال نوعا من الخيال العلمي؟ أنا الذي أدرس بمعدل عشر دقائق يوميا خارج أيام التحضير للإمتحانات، حيث يصل أقصى معدل إلى أربع ساعات..
ولا بأس ببعض التصورات الكاريكاتيرية من قبيل أسد وديع، كتب فوقه مركز الأقسام التحضيرية، يتسلى بلعق قصبة ساقي على سبيل فتح الشهية.. هكذا تكتمل الصورة القاتمة..
يبدو أن أيامي هناك ستكون حافلة..
حافلة للغاية..

تابع القراءة: مسار الألف ميل: خطوة البداية (2)


14 تعليق