تجاوز المحتوى

التصنيف: محاولات

محاولات أدبية

لمحات مرتشية (عن اليوم العالمي للرشوة 6 يناير)

piles-de-dossiers

الساعة التاسعة والنصف.. لم يصل سعادة البيه الموظف باشا بعد.. ثعابين بشرية تتلوى مصاحبة الجدار بالخارج.. الكل ينتظر الباشا.

يصل رجل والعمش لا يزال يطمس عينيه المباركتين. يدفع البوابة ويدلف إلى الداخل دون أن يلقي أدنى نظرة على الحشد المنتظر.. هكذا يعرفون أنه الموظف.. كلهم لا يلقون نظرة على الجيوش التي تنتظر أن يقرروا الوصول.. كلهم يدفعون الأبواب برؤوس محنية ويلجون إلى عرشهم.. وبالداخل، ترتفع الرأس شامخة عالية ولأنوفهم تبحث عن السحاب.

ينظر إليك الموظف باشا شذرا في ما معناه أنه لم يستبشر بوجهك الصبوح، ولسان حاله يقول: “صبحنا عالله!”. تمد إليه أوراقك فيقطب حاجبيه غاضبا كأنك ارتكبت جريمة في حق البشرية ويقول: “صبرا يا أخينا! لقد وصلت للتو!”.. تنتظر سعادته أن يستريح من الراحة، وتتذكر أنك مقيم هنا من الفجر كي يكون دورك الأول ولا تضيع ساعات عملك االأولى.. كان حلما جميلا عسير المنال بالفعل..

الساعة العاشرة إلا ربع. يناديك الموظف لتدخل المكتب برأس مطرقة.. ينظر في أوراقك بنظرة خاطفة.. ويقول: “تنقصك الدمغة”.. تخرجها من جيبك تشكيلة متنوعة من الدمغات وتضعها أمامه ليختار ما يشاء. “ينقصك عقد الازدياد”.. تخرج له عشرة نسخ أصليه وتضعها أمامه.. “تنقصك شهادة الحياة”.. هنا تتسمر.. لم يصل خيالك الإبداعي هذا الحد من التعقيد بعد..

تأتي بعد بضعة أيام.. الموظف لا يزال يمارس عادته المحببه بالتأخر.. تكتشف هذه المرة أنه يجلس دوما في مقهى أمام المبنى الإداري يرمق الحشود المنتظرة وهو يرتشف قهوته، ولسان حاله يقول : “انتظرن سيدكم أيتها الحشرات!”.

يتكرر نفس سيناريو الأمس.. هذه المرة يمارس الموظف دوره بأن يظهر كرهه الطبيعي لصفاقتك، بعد أن تجرأت وجهزت كل الأوراق الممكنة وغير الممكنة.. يلملم أوراقك ويقول: “عد غدا!”.. تستنكر الأمر وتخبره بأنك تعلم أن هذا الإجراء لا يستغرق الكثير من الوقت، وبأن كل أوراقك جاهزة.. هنا ارتكبت أول خطأ، لقد أسديت له معروفا بأن أطلقت العنان لموهبته الفطرية بالصراخ.. إنه محق! أنت لن تريه عمله.

تعود في اليوم الموالي.. ينظر إليك الباشا بنظرة احتقار، وقبل أن بطالبك بالعودة في اليوم الموالي مجددا تمد إليه مظروفا به أهم شهادة كانت ستغنيك عن كل الشهادات والأوراق. يفتح الظرف، ويلقي نظرة على الشهادة الزرقاء من فئة 200 درهم. يحمل الطابع الإداري.. ومن بعيد يدوي صوت ارتطامه بالأوراق..

تخرج من المكتب حاملا أوراقك، وأنت ترمق الضحية الجديدة التي تدلف إلى المكتب.. وعلى بعد بضعة خطوات تسمع صوت الجهوري يدوي من جديد: “تنقصك شهادة الوفاة وحسن السيرة والسلوك!”

6 تعليقات

الشقي.. (الفصل الأول)

تذكرون جمال، وتذكرونه روايته القصيرة ظلال على جدران الزمن
جمال كاتب موهوب آخر من الذين لم يستجمعوا شجاعتهم قط لمحاولة عرض عمل لهم على دار للنشر..
عني شخصيا، أنا مدمن على كتاباته لأنه يستطيع خلق عالم خاص بمجرد أن يمسك القلم.. حينما يتحدث عن شيء يجعلك تراه من زاوية أخرىطالما لم تنتبه إليها..
هذا هو جمال، وهذه هي كتاباته..
وهذا أحد أعماله..
رواية سأنشرها على مراحل كالعادة..
فلتستمتعوا معي بهذا العمل..

2 تعليقان

ظلال في جدران الزمن (5) (النهاية)

الفصلان السادس والسابع

الفصل الثامن
——————-

وجلسَت وحيدة على طرف المقعد, واعتراني الحنق منها ومن تصرفاتها الصبيانية. لكني لم أكن غاضبا حقا, لماذا أغضب مادامت هي الوحيدة التي تمكنت من إحياء روحي الذابلة. ومضيت أبحث عن زهرة بين الأعشاب الصفراء الجافة, وعثرت على واحدة فعدت أدراجي..
-أغمضي عينيك!…
-لماذا؟
-لا تكوني لحوحة, أغمضي عينيك فحسب..
ومددْت يدي إلى شعرها, وأدهشها ما فعلت بعدها. جثوت على ركبتاي ومددت يدي نحوها بطريقة مسرحية وتراخت الزهرة في قبضتي كأنها جسد ميت.
-ماذا تفعل؟
-انتظري!..
وزرعت الزهرة في شعرها, دنوت من خدها فلثمته. ولما تقابلت عينانا أدركت أن الأمر قد راقها حقا, وهمسْت حينها:
-لا تغضبي مني!.. تعرفين أني أحبك, لكني بالمقابل لا أريد أن تختبريني على هذا النحو..
-معنى هذا انك ترفض دعوتي..
-كلا, الحقيقة أنني أجهل تماما أين أصحبك!
-لا تقلق, سأدلك على مكان هادئ سيعجبك..
أحيانا تمنحنا الحياة قطرات من المتعة, لكنها للأسف لا تمنحنا ما يكفي لنطهر أنفسنا من بقايا الحزن.
لطالما فكرت أن القلوب المرهفة لعنة بقدر ما هي هبة, فالدموع التي يمنحها هؤلاء الحالمون الرومانسيون ليست سوى طريقة لتفريغ أزماتهم العاطفية, فحين يظهرون تعاطفهم بهمسات حنون أو دموع زاخرة فهم بذلك يريحون أنفسهم دون أن يتجرؤوا على منحك النصيحة الذي يعرفونه جميعا.
لا تبك لأن البكاء يجعلك تضعف!
وقد علمتني أمي ذات الشيء, فحين أخطأ أو أؤذي نفسي لم تكن تهتم بجرحي فتضمني, بل كانت تضربني حتى أني كنت أنسى ألم الجرح وأندم على ما فعلت, فلا أعاود الكرة من جديد, لأنني أدرك حينها سأذوق ألما مضاعفا. ألم الجسد والروح..

——————–

فاجأتني ذات مرة وقالت:
-هل تكره والدك؟
وتجمد الزمن لبرهة, فقد أذاب سؤالها المباغت ثلوج الحيرة في روحي.. أغرقت شواطئ نفسي واجتاحت كياني كله..
قلت بعد فترة:
-لست متأكدا!..
-وهل عرفت سبب انتحاره؟
-كلا! لطالما أخبرتني أمي أنني السبب وراء انتحاره, ولا زلت أجهل كيف.. كيف يمكن أن أتسبب في ذلك مادمت قد ولدت بعد انتحاره؟.. ماتت أمي قبل أن أعوام, لكنني لم أكن قريبا منها كفاية لتخبرني.. أنا متأكد أنني السبب حتما, فلطيفة تكن لي الكثير من الكره أيضا…
-يجدر بك أن تسألها إذن!.
-لا, لا أستطيع!..

—————–

كم أكره الوحدة في هذه اللحظات الكئيبة من حياتي! تلك اللحظات اليتيمة التي أشعر فيها برغبة في مصالحة الأشياء.. لا أستطيع أن أعيش حياتي وحيدا, لا أستطيع أن أكمل الدرب بروح منطوية وحيدة, لأنها ستموت في أية لحظة!..
لا أريد من الدنيا سوى الشعور بالسعادة, لست سعيدا هكذا! ولن أجد السعادة في اختلاطي بالآخرين, فماذا أفعل؟.
وتشردت أفكاري على قارعة الملل, وتشربت منه روحي فشلها كما الصدأ, واحتشدت في رأسي أفكار كثيرة, وتمنيت لو أتقياها فأرتاح. ونزلت إلى الشارع ابحث عن لذاتي الكريهة عن متنفس..
جلست في أحد المقاهي لأول مرة.. رحت أنصت لضحكات الآخرين وشكواهم, لأصواتهم الصاخبة وهمساتهم المنكسرة..

—————–

وصلتني رسالة شكر من لطيفة. وجدتها تحت الباب لذا عودتي, ألقيتها على الطاولة بجوار التلفاز, والغريب أن الأمر لم يدهشني بقدر ما بث الذعر في نفسي..
كنت قد اشتريت للمولود المنتظر مهدا وأرسلته, لكني لم أتوقع أن تراسلني لطيفة وهي التي لم تشعرني أبدا بشيء.. رحت أرمق المظروف بكثير من الحيرة. لا أذكر أن أختي لعبت معي يوما, حتى أنني لم أكن أناديها باسمها.. ولما رفعت المظروف من جديد تفحصت كتابتها الرقيقة, حروف صغيرة متلاصقة..
ثم فطنت إلى أمر آخر, هذا الخط يشبه خطي تماما!..
وترددت بحيرة: هل أفتحه؟
وفي وقت متأخر من الليل تلقيت اتصالا من زوجها, أخبرني أنها ماتت وهي تلد..
-والمولود؟
-لم تكتب له الحياة!!

——

الفصل التاسع
—————
كنت استحم عندما هالني مظهر الندوب على صدري, جروح قديمة تعود إلى طفولتي.. بعضها بسبب أمي, وأخرى تعمدتها لعل الألم يعوض ما أحس به من كراهية حيال نفسي!.. والغريب في الأمر أن الألم كان يتلاشى بسرعة مما دفعني لأزيد جرعة التعذيب.. لكن, هل يستطيع الألم أن يحل مكان المتعة؟
ربما يكون الألم مصدر المتعة, فالألم في حد ذاته تعبير عن إحساسنا بشيء ما, شيء لا نستطيع وصفه بكلمة أخرى غير الألم.. فالأسماء مجرد كلمات من قاموس جاهز مسبقا, ولا ننسى أننا من يمنح الأشياء أسمائها..
كنت أخرج في الليل لأتسكع في طرقات مدينتي النائمة. أحاول أن أحصي النوافذ القليلة التي يتسرب منها النور. واعتقدت في البداية أن ساكنيها يحبون السهر, وفكرت ذات مرة أنهم ربما نيام, وبسبب خوفهم من الظلام كانوا يتركون الأنوار مضاءة كما كنت أفعل صغيرا..
كنت أخشى الظلام في صغري, وأدركت حينها أن السواد لا يعني الخوف فحسب بل الحزن أيضا. لكني لم أمتلك الشجاعة الكافية لأعترف بذلك, كنت خائفا من إظهار خوفي ومشاعر مركبة مربكة لذاتي الصغيرة التي لا تستطيع أحلامها أن تتجاوز الحصول على قبلة نوم..
فكل ما أردته من أمي هو القليل من الإهتمام, القليل من الحب.. لكن وحين نفتقد أشيائنا الصغيرة نعوضها بأشياء أكبر وأضخم وأكثر أهمية. والأيام منحتني أكثر مما رغبت به يومها..
منحتني الاستقلال!..
فلماذا لا أشعر بالندم على أيامي الماضية؟ ألأنني لم أفق بعد أم لأنني كنت مستيقظا طوال فترة غيبوبتي..

————-

“أدرك يا حبيبي أنك إلى كلمات العشق..
يحملك الشوق..
كما إلى مروجها, تحن الزهور
كما إلى أعشاشها, تحن الطيور
لكني أخطها هنا, لتضيع بين السطور..”

قلت لها ذات مرة:
-ألا تجدين هذا غريبا؟
-ماذا؟
-أليس أنا من يجدر به أن يكتب لك شعرا؟
وهزت كتفيها بلامبالاة, وقالت:
-وماذا عساني أفعل؟ لا حيلة لي, ثم إن هذا ليس عيبا!
ولوحْت بالورقة في يدي, وقلت متظاهرا بالضيق:
-هل تحسبين أنك الوحيدة القادرة على هذا؟
-لم لا تريني ما تستطيع فعله إذن؟
وفطنت أن كل عباراتنا السابقة أسئلة, مجموعة من الأسئلة الخرقاء طبعا. لكنها تحدتني ولا أريد أن أفشل.. صحيح أنني لا أجيد الكتابة مثلها, لذا فكرت أن أعزف لها قطعة من القطع المفضلة لدي..
وجال بصري عبر الحديقة بحثا عن أولئك الصبية الذين رأيته قبل قليل, كانوا يعزفون في الركن البعيد..

——————-

ترددت كثيرا قبل أن أدخل. كانت هناك صالة صغيرة تتوسطها طاولة زجاجية, جلست على الأريكة ورحت أقلب المجلات بكثير من الملل.. الجدران مطلية بلون برتقالي, لون دافئ جميل أشعرني بالإسترخاء, وكانت الموسيقى الهادئة تتردد عبر المكان لتروي قلقي..
ثم انفتح الباب, رآني فأشرق وجهه بابتسامة كبيرة ودعاني لأدخل..
-يجدر بك أن تملأ الاستمارة!..
قالها بحزم بعد أن مزْقت الورقة, ولكن صوته الحاد لم يتمكن من محو ابتسامتي. ظل يحدق بي من وراء نظاراته الطبية لبرهة ثم اتكأ على كرسيه الكبير. وتابع بعد أن عجز عن فهم سر صمتي:
-كيف تريدني أن أساعدك مادمت أجهل كل شيء عنك؟
-أريد شخصا يسمعني فحسب..
-ولم أنا بالذات؟ لست مضطرا لتحمل كلفة استشارتي, بإمكانك أن تكلم أي شخص آخر, أحد أصدقائك مثلا!..
-ليس لي أصحاب!..
ومضت نصف ساعة وأنا أتكلم, وفي النهاية استوقفني وقال:
-ولماذا تستغرب الأمر؟
-لأنه من غير المنطقي أن تموت لطيفة في ذات اليوم الذي تسلمت فيه رسالتها.. اعتقدت في البداية أنها صدفة ربما, كأنها استشعرت الأمر ورغبَت عبر رسالتها في مصالحتي.. تماما كصحوة الضمير التي تصيب المرء وهو يحتضر, لكني فطنت إلى السبب أخيرا… أنا قتلتها!
ظل يرمقني بهدوء مصطنع, لكني عرفت أن عبارتي قد صدمته, فلماذا ارتعشت يده إذن؟
وهنا أخرجت صورة لي وأنا صغير, كنت أفق فيها إلى جوار أمي بينما أختي في حضنها.. والغريب أن أختي كانت أكبر من أن تُحمل على عكسي, فقد كنت صغيرا جدا, فرحت أتشبث بفستان أمي وأحدق فيهما!
منحته الصورة, وقلت:
-هذه أختي..
-لا أراها!
-ماذا تعني؟ إنها هنا في حضن أمي..
ورأيت نظرة الغضب التي لمعت في عينيه, وبعدها صاح:
-هل تسخر مني؟ لا يوجد سواك في هذه الصورة!
-أعرف!أردت أن أتأكد من صحة ظني فحسب..

—–

الفصل العاشر

———————

لم أكن يوما راضيا عن نفسي, وكأن حياتي كلها في النهاية ندم كبير, وتمنيت لو تلعق كلمات ناهد كل اللحظات المريرة التي عشتها..
واحتضنتها برفق, ولما رفعت وجهها نحوي قبلتها.. وشربت من نبيد شفتيها حتى الثمالة, لكن القبلات الأولى التي سرقناها من الزمن ومن الناس لم تسقني بل تركت في روحي عطشا أكبر..
ركبت الباص لأول مرة هذا الصباح, وجلبت وردة حمراء وضعتها على مكتب ناهد. انتظرتها طويلا لكنها لم تحضر. وطال غيابها هذه المرة, أربعة أيام مضت دون أن أعرف عنها شيئا. وبقيت في المكتب وحيدا, ولم تكن الوحدة تزعجني بقدر ما يزعجني غيابها..
ربما كانت مريضة!
قالت لي آخر مرة:
-هل ستفتقدني؟
-ماذا تقصدين؟
-لو قررت أن أرحل يوما, هل ستحزن؟
-بالتأكيد! لكني لن أجرؤ على منعك, والدك رحل دون أن يودعني بدوره.. كنت أحبه حقا!. وربما كان تعلقي به محاولة يائسة مني لأذوق مشاعر الأبوة التي لم احظ بها قط..

———————–

-أخبرتَني في البداية أنها ماتت وهي تلد, فلماذا تقول أنك قاتلها؟
-لأنها موجودة هنا! في رأسي وحسب.. لقد اختلقتها!!.. لقد لقيت معاملة قاسية من قبل أمي. لم تشعرني بأنني ابنها يوما, كانت تضربني وتسيء إلي طوال الوقت.. لكن وبدل أن أكرهها كرهت لطيفة أختي, فكانت الشماعة التي علقت عليها حقدي وكرهي كله..
-أهكذا تفسر ما حدث إذن؟
-لا تنس أنك الخبير هنا.. أنا أخبرك بما اعتقده فحسب, ما رأيك أنت؟
لم يجب, خلع نظارته وحك أسفل عينيه, ثم سألني:
-وماذا عن انتحار والدك؟
-ليس غريبا أن ينتحر أبي! كان مجنونا ولم يتوقف يوما عن أذية نفسه, بل تعدى ذلك وصار يضرب أمي.. ولما علم بحملها اعتدى عليها وكاد يتسبب في إجهاضها, لكني نجوت بأعجوبة, لذا خيرها بيني وبين حياته..
-وكيف عرفت ذلك؟
-قرأت ملفاته الطبية!..

———————–

وجاءني طلب من المدير, صعدت الدرجات المؤدية إلى مكتبه. طرقت الباب فدعاني للدخول.. ولوهلة ظل يحدق بي كأنما يراني لأول مرة, ولم استغرب الأمر فهو لم يرني منذ زمن.
-منذ متى وأنت تعمل في الأرشيف؟
-منذ ست سنوات ونصف سيدي!
-جيد! معنى هذا أنك تملك خبرة كافية لتتولى مهاما أخرى.. لكن أخبرني أولا, كيف تمكنت من تحمل العمل في ذلك المكان لوحدك؟
وحين غادرت مكتبه كنت قد تلقيت ترقية, لن أعود إلى الأرشيف بعد اليوم.. هناك مكتب بانتظاري, مكتب أوسع ذو نوافذ كبيرة ويعج بالموظفين!..

———————-

ماتت أمي في ذات اليوم الذي غادرت فيه المنزل لألتحق بالعمل, حين أخبرتها برحيلي لم تنبس ببنت شفة, فقد حسبت أنها سترفض ولم تفعل..
ولم أكن أقرب غرفتها في حضورها, وفكرت أن أودعها لكني خشيت أن أوقظها من النوم. وعرفت أنها ستضربني قطعا لو فعلت, فمزاجها يكون متعكرا في الصباح, ولن تهدأ قبل أن تدخن لفافتين أو ثلاثا فقد كانت تدخن بشراهة!..
فتحت غرفتها, تسللت بهدوء إلى السرير.. ولما دنوت من جبينها ولثمته أدركت أمرا.. كان جسدها باردا, وعلى شفتيها ابتسامة شاحبة!.
حملت حقيبتي وغادرت, وبعد أسبوع اخبروني بوفاتها.. قالوا أنها ماتت قبلها لكن أحدا لم يكتشف الأمر, ليس قبل أن تفوح رائحة جثتها وتزعج الجيران!..

—————–

وهنا قررت أن أنهي هذا الحوار الذي بدأ يثير أعصابي, فقلت:
-هل استطيع الإنصراف الآن؟
وظل يرمقني لوهلة..
-ليس قبل أن تعدني بالعودة!..
-لا تقلق يا دكتور!.. لن انتحر لو كان هذا قصدك! انتحر أبي لأنه لم يرغب بمجيئي إلى هذا العالم, وبعدها انتحرت أمي لأنها لم تتحمل ابتعادي عنها.. ربما كانت تحبني رغم كل شيء, لكنني كنت أذكرها طوال الوقت بأبي الذي كرهَته! وكل هذا يبقى مجرد احتمالات أحاول أن أضمد بها جراحي لأنني لن أعرف.. لن أعرف الحقيقة أبدا!!

———————–
النهاية
بوالخورص جمال
22/03/2006

1 Comment

ظلال في جدران الزمن (4)

بقلم: جمال بوالخورص

الفصلان: الرابع والخامس

الفصل السادس:

الأيام كمفاتيح البيانو, سوداء وبيضاء. لكن حتى المفاتيح ذات اللون الواحد تطلق أنغاما مختلفة..
تساقطت كل الصور من الجدار تماما كما يُسقط الخريف أوراق الشجر اليابسة, وكنت قد اعتدت الأمر, فحين تبرد الجدران يجف الشريط اللاصق وتتداعى صور أبي..
جثوت على الأرض لأجمعها, ثم ألصقتها من جديد على ذات الجدار حتى أتمكن من رؤيتها طوال الوقت, وهي عادة بدأت لتوها. وبعد فترة لن أستطيع التخلص منها تماما كعاداتي القديمة كلها.

————————-

سألتني:
-إلى أين تريدنا أن نذهب؟
-لا أعرف, ظننتك سترغبين بالعودة إلى البيت..
-لا أريد أن أعود إلى البيت الآن..
وسألتها بدهشة:
-وإلى أين ترغبين بالذهاب؟
وتراقصت على شفتيها ابتسامة, وردت بسؤال آخر:
-ما رأيك لو تصحبني إلى مكان هادئ لنشرب شيئا؟ فأنا أشعر بالعطش..
-لست معتادا على ارتياد المقاهي!..
قلتها بحسم, والحقيقة أنني لم أرغب بمرافقتها طويلا. وعرفت أنها استنتجت ذات الشيء, فبقائي معها في هذا المكان يختلف تماما عن أجواء المكتب, وقالت بضيق:
-آسفة! لم أحسبني مزعجة إلى هذا الحد, فكل ما رغبت به هو الترفيه عنك..
وأشعرتني كلماتها بالذنب, وتركتني بعدها لتمشي على الرصيف.
ثم فطنت إلى الحقيقة التي غابت عن عني, أنا خائف من التقرب منها!.
أنا مجرد طفل خائف, طفل تائه في الظلام! أبحث عن ملاذ لذاتي المسحوقة فلا أجد غير أبواب مغلقة تتسلل خيوط النور عبر شقوقها. وكلما حاولت التقرب شعرت بالخوف لأنني ما عدت أدري إن كان النور سيدفئني أم سيذيبني..
000
-أن أستيقظ ذات يوم, وأن أخبر العالم أني أحبك, وأن يتهموني بالجنون بعدها لأنني تخيلتك, وأن يخبروني أنك مجرد ملاك أو روح أو أي شيء آخر قد ينفي حقيقة وجودك..
سألتني حينها:
-وهل أنا موجودة حقا؟
-ربما!
وسكتت لبرهة من الزمن ثم قالت:
-أهذا حقا ما تخشاه؟
أومأت لها برأسي فاقتربت مني. استنشقْت عطرها وسجنته في صدري..
قالت:
-أفكارك غريبة جدا! لكنها تروقني..
وابتسمَت فسألتها بدوري:
-وأنت يا ناهد, مالذي يخيفك؟
-أخاف أن أفقدك..

———————

-كيف حالك؟
-بخير.. بخير! وأنت؟
وأجابت:
-أنا بخير!..
وخرسْت كعادتي, فمن الصعب أن أجد عبارات كتلك التي تغرق بها النساء بعضهن, وكنت أحسدهن دوما على تلك الموهبة. ولما تكلمَت لمسْت نبرة السعادة التي تفيض من كلماتها, قالت:
-أنا أنتظر مولودا!..
فاجأتني, تلعثمت في البداية ورحت أبحث عن كلمات مناسبة لأرد..
ووقفت أمام النافذة أطل على الشارع المهجور, كان المطر يغسل وجه المدينة وينثر الرذاذ على الإسفلت وفوق الطرقات ويبلل المارة..
-ما بك؟
ونظرْت إلى ناهد الجالسة على طرف مكتبها, وأجبت:
– لطيفة أختي حامل!..
صفقت بكفيها كالأطفال وقالت بسعادة:
-يا الله !. كم هذا جميل!.. مبروك لك, ستصير خالا عما قريب…
ولما انتبهت إلى عدم مجاراتي لها قالت تسألني بقلق حذر:
-هل هي متزوجة؟
-بالطبع!..
-لم أنت قلق إذن؟
وتنهدْت بحرقة لعلني ألفظ ولو القليل من الضيق الذي يخنقني, وقلت بعدها:
-يجدر بي أن أكون سعيدا, لكني لست كذلك!. لا أعرف ماذا يحدث معي, فأنت سعيدة لمجرد سماعك الأمر رغم أنك لا تعرفينها.. وأنا أخوها الذي يفترض به أن..
وفضلْت أن أخرس لأنني بالطبع لم أعرف مالذي ينبغي أن أفعله, ووجدَت حيرتي وميضا من السلوى في ابتسامتها المشفقة وسمعتها تقول:
-لم لا ترسل لها هدية؟..
——————–

الفصل السابع

-ناهد..
-نعم؟
-هل تحبينني؟
وانتابها الذهول لبرهة, وفتحت فمها لتقول شيئا ثم ضحكت وأدركْت أنها اعتبرت الأمر مجرد مزحة, فقلت:
-لماذا تضحكين؟ أنا جاد!..
وألقت قلمها على المكتب, وضعت خذها على كفها وقالت:
-حسنا, دعني أفكر!.
-وهل يحتاج الأمر إلى تفكير؟
-كلا, أنا أفكر في الصيغة المناسبة للإجابة..
وصمتت ولما طال الصمت انتابتها نوبة جديدة من الضحك, حاولَت في البداية أن تتغلب عليها لكنها أفلتت ضحكة أكبر وأقسى. وعرفت أنها تستمتع بتعذيبي فقلت:
-انسي الأمر!..
-أحقا تريدني أن أنسى؟
واجتاحني الغضب فغادرت الغرفة, ولما خرجْت إلى الممر لحقت بي وركضت خلفي عبر الدرجات..
-آسفة! لم أقصد إغضابك..
ووقفت أرمقها لبرهة, ولم تتمكن من تثبيت عينيها على وجهي, فأزاحت عني بصرها وسألتني:
-وماذا عنك أنت؟ هل تحبني؟

————————

ربما تنبع حاجتنا إلى استقصاء الحقيقة من جهلنا لها, لكني أدمنت أن أسأل الآخرين أسئلة أعرف إجاباتها أو بالأحرى أسئلة أتوقع أجوبتها, وجنحت عن القاعدة هذه المرة وسألتها:
-ناهد, هل أنت بخير؟
نظرت نحوي, وكنت قد قررت أن أضع حدا لتلك الأسئلة التي يعج بها صدري, أردت أن ألفظها حتى أرتاح.
-وهل تعتقدني كذلك؟
ولم أقل شيئا, فتابعَت بصوت منكسر:
-كلا, لست بخير, أنا مريضة!..
وأخبرتني أنها تتقيأ كثيرا, وأنها تتعرض أحيانا لنوبات ألم تجعلها تفقد وعيها. وتقضي الليل أحيانا وهي تتألم فلا تقدر على النوم, وعرفت حينها سبب شحوبها وضعفها..
-لهذا كنت تحتاجين المال بشدة!..
-أجل..
-والدك كان يستدين مني أيضا..
ولم يفاجئها الخبر, ودمعت نظرتها على الأرض وقالت:
-أعرف, كان يبتاع لي الدواء..

——————————

-ما بك؟
زفرت وأفرغت محتويات صدري, لكني شعرت أن هناك المزيد. أشياء كثيرة تسد أنفاسي وتخنقني.
وكررَت:
-مالذي يزعجك؟
-لست أدري!..
ثم قررْت أن أخبرها الحقيقة التي لطالما سجنتها في داخلي, ولكنني عرفت أن هذا لن يحررني أبدا..
-أنا يتيم مثلك تماما يا ناهد. لم أر أبي أبدا, رحل قبل ولادتي بأيام!. وكل ما تركه لي هي صور قديمة مزقتها أمي في لحظة غضب وألقتها في القمامة, لكنني تمكنت من جمعها, وألصقتها من جديد..
جمعتها قطعة قطعة!.. وأدركت في النهاية أنني -ومهما فعلت- لن أمحو شقوق الكسر في روحي..
-فليرحمه الله..
-لا أعتقد ذلك!.
ونظرت ناحيتي بغضب, لكن ملامحها سرعان ما لانت ووضعت يدها على كتفي, وقالت:
-لا تقل هذا!..
-أبي انتحر يا ناهد, انتحر!.
———————-

الفصول الأخيرة

Leave a Comment

ظلال في جدران الزمن (2)

بقلم: جمال بوالخورص

الفصل الأول

الفصل الثاني

وجدتها تكتب ذات صباح, وكنت قد علقْت في زحمة مرورية فتأخرْت. ولما دخلْت رفعَت عينيها نحوي وأخفت الورقة, تجاهلْت الأمر في البداية وألقيت تحية الصباح..
منحتني ابتسامة هادئة كالمعتاد, وقالت:
-ظننت أنك لن تحضر..
-ليس اليوم, لدي عمل مهم لأنهيه!.
فتحَت ملفا وبدأت تنقل بعض الأرقام, ومن عاداتها الغريبة أن تنطق الكلمات بصوت خافت قبل أن تدونها.
-ماذا كنت تفعلين؟
-لاشيء!
-معك حق فهذا ليس من شأني!..
ثم زفرَت باستسلام أمام نظراتي الحانقة, أخرجَت الورقة من درج مكتبها وسألتني:
-هل تحب قراءة الخواطر؟
-لا أدري, قد أحبها لو كانت جيدة..
ومنحتني الورقة فأمسكتها, وقالت:
-ما رأيك بهذه؟
وبدأتُ أتلو ما كتبَت:
“أمس زرت قبرك..
وجدت الشّوك يغطّيه, وحين مددت يدي لأنتزعه أدمت أصابعي..
أمس زرت قبرك..
تركت دمائي فوقه , وكلّ قطرة دم صارت وردة حمراء..
اليوم , وأنا أقف جوار قبرك وجدت الورود تغطّي جوانبه, لم أستطع أن أقطف واحدة .. ليس لأنّني خشيت أن تجرحني.. بل لأنّي ما عدت أملك في عروقي ولو قطرة دم واحدة..”
000
كنت أنظف, واكتشفت أني لم اهتم أبدا بترتيب أثاثي أو تنسيقه, وكل همي هو أن أزيل طبقات الغبار قبل أن تترسب وتتحول إلى تل..
ولماذا اهتم بهذا وأنا الذي لم يستقبل أحدا؟
ثم سمعت طرقات على الباب ذات صباح, ولما فتحته استقبلني وجه جميل وعيون واسعة, وسمعت الفتاة تسألني:
-هل تسمح لي بدقيقة من وقتك؟
وظلت تتحدث لعشر دقائق كاملة, وفي النهاية أقنعتني بشراء مجموعة من الحيوانات البلاستيكية ذات قطع مغناطيسية. ألصقتها على باب الثلاجة, لكنها لم تصمد كما توقعت, فكانت تسقط بمجرد أن أفلتها. وأدركت أخيرا أن تلك البائعة المتجولة خدعتني.
ولما انتهت نوبة الغضب, أحضرت صمغا وألصقتها, ولم يكن الأمر سيئا كما توقعت. ولكن فكرة تعرضي للخداع استهلكت هدوئي..
ثم فكرت مليا, مالذي جعلني أقبل بشرائها؟ ألانني رغبت بذلك حقا؟ أم أن هناك دافعا آخر؟
وتذكرت نظرة الفتاة البائسة ووجهها الذي يجاهد ليخفي تعبه بابتسامة لا أدري مصدرها, واقتنعت أخيرا بأن الأمر يستحق, على الأقل منحت الثلاجة مظهرا مختلفا وأضفت إلى المطبخ بعض الألوان. وربما لو احتسبت كلمات الشكر الذي أغرقتنني بها الفتاة لمالت الكفة إلى ناحيتي..
000
-ألن ترحل؟
-لماذا أفعل؟ لم تنته الدوام بعد..
وأجابت ناهد:
-جميعهم سيرحلون مبكرا هذا المساء, كي لا تفوتهم المباراة..
وكنت ألزم البيت بدل الخروج إلى المقاهي التي تعج بمتتبعي البطولة الأوربية والمتعطشين إلى الأهداف, واستغربت هذا الحماس الجنوني والحب المحموم للكرة. فلماذا لا يترقبون النتائج مثلي في النشرات الرياضية؟
لماذا يحرقون أعصابهم ويستهلكون أضعاف ما يستهلكونه عادة من السجائر ويفتعلون الشجار؟ ويجد الواحد منهم نفسه في اليوم التالي ذاهبا على عمله وكدمة على وجهه إضافة إلى هزيمة نكراء لفريقه المبجل..
وبدل هذا كنت أنصت إلى الموسيقى وأحاول أن أتمرن على قيثارة اشتريتها منذ زمن, فأداعب أوتارها وأعزف بخجل..
تعودت أن أمشي وحيدا في أزقة لا تسكنها إلا الظلال, ظلال تعيسة تحاول أن تحاكي الأشياء, ظلال مشوهة تلتصق بالجدران, تزحف على الأرض ولا يصيبها البلل..
وماذا عن حياتي؟ ربما تكون بدورها مجرد ظل على جدران الزمن.
وأفقت من كابوسي ذات ليلة وقد أفزعتني الفكرة..
لا أريد أن أكون ظلا!..

——————————–

الفصل الثالث

سألتني ناهد وهي تجلس قبالتي وتتابع ترتيب الملفات:
-كم عمرك؟
وبدا واضحا أنها تستمتع بهذا الحديث, فسؤالها يتجاوز مجرد رقم قد تلفظه شفتاي, وأجبت:
-خمس وعشرون سنة..
-أنت تكذب!..
ولم أعرف لماذا نعتتني بالكذاب, ألأنني بدوت لها أكبر من عمري أم لأن عمري أكبر مني؟
ووجدت نفسي أقف أمام المرآة, أتأمل وجهي الذي لم تدنسه تأملاتي من قبل. أحاول أن أحفظ الملامح التي تعكس روحي على عيون الآخرين, ولما مللت من تفحصه بحثت عن وجه قديم ركنته في ذاكرتي..
وجه أبي!..
واكتشفت أني لا املك من صوره إلا النزر اليسير, وكلها متناثرة وسط أوراق إدارية قديمة ظللت احتفظ بها منذ زمن, ربما لأنها الدليل الوحيد المتبقي على وجوده.
ثم جمعت الصور ذات مرة وألصقتها على جدار غرفة نومي..
وكثيرا ما أخبرتني أمي أنني أشبهه, تقبلني وتحضنني بين ذراعيها وتبكي. لكنها سرعان ما تتراجع عن كلامها كلما مرت بنوبة غضب, كانت تتهمه بالخيانة وبتركه إيانا في عهدتها ونحن لا نزال صغارا, وأنه فظل الهرب بدل البقاء إلى جانبها. وربما كان كلام أمي السيئ عنه سبب كره لطيفة له, بل وسبب خلافها الجوهري معي.
وأذكر تلك اللحظات اليتيمة التي تسنى لي فيها العبث بأشياء أبي, فكنت اغتنم غياب أمي في العمل وأتسلل إلى غرفتها لأتفقد ملابسه, ألبسها وأستنشق عطره عبرها, أضع خاتمه وساعة يده.
حتى أنني قررت ذات يوم أن أفتح خزانة أمي, وسرقت منها ظرفا كبيرا لم أره من قبل ثم صعدت إلى السطح.. ولم أفهم سبب إخفاءه عنا حتى عثرت على شهادات طبية داخله, وصدمتني الحقيقة..
أبي لم يمت كما أخبرتنا أمي..

———————-

تابع>>

Leave a Comment

ظلال على جدران الزمن..

بقلم: جمال بوالخورص

1
***
حياتي مسرحية معقدة وقد عشت معظم فصولها خلف الكواليس, خائفا مرعوبا من مواجهة الآخرين. فلا أرى وجوه الممثلين ولا أسمع سوى ضحكات الجماهير التي يمتصها الظلام..
كنت أشارك الغرفة مع السيد إبراهيم, وهو رجل طيب, هرم في السن ولم تمنحه الأيام الحكمة التي ينشدها, وأفكاره عن الحياة لا تزيد عن معرفة طفل عن القمر, فلا يراه إلا قرصا مضيئا يحاول أن يحل مكان الشمس الغائبة..
وكان مدخنا شرها لا تفارق الولاعة يده المرتجفة دوما, ولا يتجاوز عمله تصنيف الملفات وترقيمها, وكنت من يقوم بالعمل كله, وأحيانا أشفق عليه من الباص فأقله معي في طريق العودة, أدفع أجرة السيارة وأكمل الطريق مشيا..
وذات صباح مل من الحياة كما ملت منه ولم يحضر..
ثم قدمت ابنته بعد أسابيع, واكتشفَت أنني من شارك والدها أنفاسه اللاهثة الكسيرة لأشهر, زميل والدها الذي لم يحضر جنازته والذي لم يكلف نفسه ولو مجرد اتصال هاتفي لأبنائه.
لكني استغربت تلك العلاقة بيننا فلم يكلمني يوما عن أبنائه أو عن زوجته, بل كان سجين الصمت مثلي تماما, يقف أمام النافذة, يدخن ويطل على الشارع.
ولما جلسَت في ذات المقعد الذي شغله والدها قالت لي:
-اسمي ناهد وسأشغل مكان والدي.. أرجو ألا تمن علي بالمساعدة!..
وتحسست مكتب والدها, أزالت عنه الغبار ورتبت الملفات. مسحت عيناها المبللتين في أرجاء الغرفة, وظلت بعدها صامتة تجتر ألمها..
ربما تكون فكرة تشارك المشاعر مجرد أكذوبة أخرى من الأكاذيب الكثيرة التي تملأ هذا العالم, فمالذي أستفيده لو كلمتها؟ أعرف أنني لن أواسيها, لن أمنحها حضني لتبكي فوقه, ولن أمنحها تلك الكلمات المليئة بالأمل, ولن أخبرها كما يفعلون أن كل شيء سيكون على ما يرام..
وأذكر يوم كانت أمي تحتضر, جلست إلى جوارها أنصت لأنفاسها الخائرة وأنينها الصامت, ولما حانت لحظة رحيلها غادرت المنزل رغم هطول المطر. خفت وهربت, ولم أمتلك الشجاعة الكافية لأبقى إلى جوارها في لحظاتها الأخيرة..
ولما علمت بموتها عدت, اعتراني الحزن ولزمت الصمت. وودت لو أخرج إلى المطر من جديد, أمشي تحت الشلال البارد وأذوب مع الريح الصارخة في الفناء. وبكيت بعدها, لكن دموعي لم تستطع أن تمحو الندم العالق في ذاكرة لا يريد النسيان أن يرحمها..
ولم تكن علاقتي بأختي لطيفة مثالا للأخوة, لكن الموت كان أكبر مني ومنها فوجدت في حضنها ملاذا لدموعي ونحيبي, وبقيت أياما في منزل زوجها, أشاطرها الطعام والصمت والكلمات الشحيحة التي يسعفني بها لساني..
و فيما بعد عثرت على كل الكلمات التي لم أتمكن من قولها, لكنها بدت لي كلها عقيمة غير قادرة على مواساتي, فكيف تواسيها؟

——————————————–

وكان وجه ناهد شاحبا على الدوام وغزوت الأمر في البداية إلى مواد التبرج التي تضعها, وعيناها الضيقتان تفتقران إلى البريق الذي يشع من كل العيون التي عرفتها. لكن هذا لم يتمكن من طمس جمالها الهادئ..
-كان أبي رحمه الله يحدثني عنك كثيرا..
-حقا؟
وأومأت برأسها. قالت:
-أخبرني أنك شخص غامض يميل إلى العزلة والصمت, ولكني لا أشاطره الرأي..
وسألتها بسرعة:
-وما رأيك أنت؟
أجابتني:
-رأيي أنك تحتاج إلى أصدقاء..

————————————

صغيرا, كنت أطل عبر النافذة لأراقب الأطفال وهم يلعبون في الخارج, وكان بمقدوري الخروج لمشاطرتهم اللعب والضحك والبكاء, لكني أردت الاحتفاظ دوما بذلك الحاجز الزجاجي البارد بيننا. عرفت أسماءهم ومزاج كل واحد منهم وصرت أستطيع توقع تصرفاتهم, لكني تأخرت كثيرا قبل أن أخرج من شرنقتي وأتخطى حدودا وضعتها لنفسي بنفسي, وأغادر المنزل لألعب كما لو كنت واحدا منهم..
واكتشفت أخيرا أنني لم أكن الوحيد الذي استمتع بلعبة المراقبة تلك, هم أيضا عرفوا بوجودي فكانوا يلتزمون باللعب قبالة نافذتي..
وأجمل ما حظيت به في طفولتي هو ذاك الركن الأخضر المشمس دوما في خيالي, مكان كنت الجأ إليه لوحدي كلما أمطرت في الخارج, هناك حيث أشعر بالدفء والأمان, وحيث أستطيع أن أحلم بما أريد..
لكني لم أحظ قط بصديق حقيقي, ولم أكن أكلم زملائي في العمل إلا ناذرا, فلم تتجاوز علاقاتنا إلقاء التحيات. وكانوا يتهمونني بالخجل وحب الانزواء, فكلماتي التافهة أصغر من أن أتبجح بها في حواراتي التي لا تريدها أن تنتهي على ضفاف آذان ألفت الكذب والنفاق, وكنت أفضل الصمت عندها, أسكت وأراقب أولئك المدعين كثيري الكلام.
واعتقد أن سر صمتي هو قدرتي الغريبة على تجاهل الأشياء.

تابع>>>>

5 تعليقات

أصدقاء القلم والعلم.. (بفتح العين وكسرها)

لماذا هذا القسم؟
لو تغاضينا عن أنني غريب الأطوار وأحاول تجريب كل شيء..
ولو تغاضينا عن أنني متكاسل، وأعرف أن هنالك فترات لا يمكنني فيها أن أنوي فقط أن أحك أنفي..
ولو تغاضينا عن هذا الأسلوب المتحذلق..
يمكنني أن أقول أن هذا القسم هو رغبة محمومة لي في أن يشاركني صديق القلم الأوحد خط كلمات هذه المدونة..
كاتب موهوب هو، ولا شك في ذلك.. أرى لديه أشياء تنقصني ويرى لدي أشياء تنقصه.. ربما لهذا نحن متكاملان..
لقد كان كل منا شعلة فتيل الآخر دوما.. ولهذا تطورنا معا.. وبدأنا النضوج الأدبي معا.. وأتمنى أن نكمل الدرب معا..
هذه إذن مدونة جمال داخل مدونة عصام..
بديع!! هه؟.. ما رأيكم؟

3 تعليقات

أمير الفرس (الحلقة الثانية): قلب يخفق..

“إن الموت مصيرك! إنه قدرك الذي لن يمكنك تحديه!”
رمق الأمير عجوزا تتلخص قسماته في عينين بيضاوين بصيرتين.. عينان خطفتا كل معنى لما سواهما من الملامح، فأصبحتا الوجه كله..
لطالما اعتبره الأمير نذير شؤم.. كره كلماته.. ومقت نظراته التي لا تبصر، لكنها تخترق الوجدان..
إنه يبقي عليه إكراما لخاطر أبيه الملك، و إلا لكان قد فصل رأسه عن جسده منذ دهر..
هاهو ذا العجوز يثبت مرة أخرى أنه منافس عتيد لغراب الشؤم بكلمات قدت منامه..
المصيبة أنه يعرف أن العجوز محق.. و أنه لم يأت بجديد يذكر.. يعرف ذلك بوضوح منذ أطلق سراح رمال الزمن، و أفسد التوازن العام..
إن (الداهاكا) حارس الزمن لن يسمح له بأن ينعم بالسلام مرة أخرى.. لذا لم يكن هنالك بد من أن يقوم بمحاولة أخيرة: سيبحث عن بوابة الزمن.. سيعود للماضي ليحاول إيقاف عملية تكوين الرمال من الأصل.. حينها فقط قد ينعم بالأمن..
يحاول الكلب اللحاق بالرجل.. لكنه ينسى شيئا: الهارب لم يكن وحيدا..
ويتناهى إلى مسامع الرجل عواء يعاني ألم الدنيا..
لا وقت للتوقف.. لا وقت!!
قد يتوقف قلبه في أية لحظة.. لكن هذا لا يعني أن جسده قد يفعل المثل..
إن البقاء هو الأهم..
ينعطف يسارا إلى مدخل زقاق جانبي آخر في اللحظة ذاتها التي غمر فيها الغبار الأسود المنطقة التي كان يحتلها جسده..
وظهرت الأذرع الأخطبوطية الدقيقة من وسط الغبار مندفعة وراء الرجل..
إنها النهاية!..
تبدو له تلك البوابة الخشبية التي تعلن عن نهاية الزقاق كبوابة قبر مرتقب..
يضربها بكتف يكاد ينخلع دون أن تتحرك..
حسنا.. مادام سيموت، فلن يكون سهل المنال..
التفت لمواجهة الغبار.. ومن تحت العباءة أخرج سيفين قصيرين مقوسين بالأسلوب المشرقي الشهير.. أمسك مقبضيهما بالمقلوب، فارتفعا في موازاة ذراعيه بتأهب..
وعلى السطح المصقول لسيف منهما بدا ذلك الوجه المرعب ذي قرني الكبش وهو يخترق المشهد!..

* * *

انطلقت شهقة مدوية مزقت سكون الحجرة، ثم دوى صوت ارتطام مكتوم بالأرض..
نهض (خيري) من السقطة وهو يمسك ركبته المتأذية.. خيل إليه أنها تهشمت لا محالة.. لكن الألم بدأ يختفي ببطء وقد تحولت مسامه إلى صنابير عرق لا تنضب..
إنها ثالث مرة يحلم فيها ذات الحلم بذات التفاصيل.. وليس هذا مصدر رعبه الأكبر.. المشكلة انه يحلم بمقاطع فيديو من لعبة “أمير الفرس” بكل تفاصيلها..
لم يعش قط أحلاما بمثل ها الوضوح.. يكاد يقسم أنها الحقيقة لولا انه يستيقظ دوما في فراشه..
النعاس يأبى جفنيه الآن.. لذا اتجه نحو الحمام الملحق بغرفته، ولأعمل رأسه تحت الصنبور لينتعش قليلا، ثم خرج والمنشفة فوق رأسه.. لمح الخوذة السوداء الأنيقة جاثمة فوق الأريكة..
لم يقاوم النداء، فربط الخوذة بالقابس الكهربائي، واسترخى فوق الأريكة..
ووضع الخوذة..

* * *

– “إنه رائع! راائع!”..
حملقت (ساشا) بملامح (مايا) الهائمة.. مطت شفتيها ضيقا وهتفت:
– “لست أدري ما الذي يروقك بهذا الفتى المدلل! لو صفعه أحدهم لخر باكيا كالفتيات..”
أجابت (مايا) بصوت محتد:
-“هذا لأنك لم تري ماذا فعل بالأمس.. ثم إن هذه ليست المشكلة..”
-“ما المشكلة إذن؟”
-“إنه لا يعيرني اهتماما قط.. حتى أنه تجاهلني أمس حينما رفعت يدي بالتحية في الفصل.. لقد شعرت بحرج قاتل..!”
تمتمت (ساشا) مغتاظة:
-“هكذا الفتيان دوما.. ما إن تعبر الفتاة عن الاهتمام بأحدهم حتى يلعب دور (الدنجوان) الذي لا يهتم لهم قط.. ألم تري وجهك بالمرآة من قبل يا بنيتي؟ أنت جميلة حقا.. وكل فتيان فصلك و آخرون يتمنون رضاك..”
أطلقت (مايا) تنهيدة حارة وقالت بيأس:
– “لكن (كايري) لا يفعل!”
ثم انفعلت وصرخت:
– “لا أريد سوى (كايري)!”
أتى صوت الصدى من بعيد:
-“(كايري)!!.. (كايري)!!”
لكن صوت الصدى بدا خشنا ذكوريا..
-“انتظر يا (كايري)!”
هكذا تأكدتا أنه لم يكن صوت الصدى.. وزاد يقينهما حينما ظهر (خيري) مقتحما بوابة المدرسة ووراءه (تونو) و(شيكي) يصرخان:
-“توقف يا (كايري)! أنت لا تدرك ما أنت مقدم عليه!”
واصل (خيري) الركض باتجاه (مايا) وهو يصرخ:
– “لن توقفاني.. سأعترف لها بكل شيء..”
خفق قلب (مايا) مع سماع العبارة.. غنه يقترب.. إنه يركض نحوها.. أخيرا! لم تكن تعرف أنه كان يخفي مشاعره نحوها.. لم كل هذا الجفاء من البداية إذن؟
تضمخ وجهها بحمرة الخريف، واستعدت لاستقبال النبأ السعيد.. أغمضت عينيها بانتشاء للحظات، فأحست بلفحة هواء تطاير معها شعرها.. فتحت عينيها، فوجدت (خيري) يواصل الركض مبتعدا عنها في الاتجاه الآخر ورأسه يعمل رادارا يبحث هنا وهناك.. حينها فقط فقد أعصابها وانهارت باكية..
مرق (تونو) بدوره بجوارها وحنجرته تكاد تغادر حلقه.. أما (شيكي) فقد كان لا يزال يتدحرج، لأن أمثاله لا يركضون، و أنفاسه تكاد تنقطع..
وصل المكان الذي سقطت به (مايا).. كانت (ساشا) تطيب خاطرها والغضب ينخرها.. توقف ووجهه مزرق من نقص الأوكسجين وقد تحولت كلمة 0كايري) في حلقه إلى (مايا)..
عب جالونات من الهواء ليتمالك نفسه، ووضع يده على كتف (مايا) وهو يقول:
-“دعك منه.. إنه لا يحبك..”
ثم استطرد بوجه كالطماطم:
– ” أنا أفعل!”
ابيض وجه (مايا) رعبا، وصرخت بأقصى قوتها وهي تفر من أمام (شيكي) الذي حك مؤخرة رأسه باستغراب قائلا:
-“ما بها؟”
مطت (ساشا) شفتيها وهي تقول:
-“تلقت صدمتين متتاليتين من النوع الثقيل.. هذا أقصى مما يمكن أن تتحمله أي فتاة”
التفت إليها (شيكي) وقد انتبه لتواجدها للمرة الأولى.. فاحمر وجهه خجلا من جديد وهو يقول في خفوت:
-“آنسة (ساشا).. أنا أحبك!”
هنا سقطت (ساشا) مغمى عليها مباشرة..
حك (شيكي) أرنبة أنفه، وأطلق ضحكة مفتعلة وهو يقول:
-“إن وسامتي فتاكة بالفعل..!”

* * *

كان (خيري) لا يزال يركض هنا وهناك.. وفجأة رمق فتاة من السنة الثالثة فاتجه نحوها بسرعة.. وسألها:
– ” أين (آسومي)؟”
تطلعت إليه مندهشة وأجابت:
-” أية (آسومي) منهن؟”
– “طالبة السنة الثالثة فصل رقم أربعة”..

-“آه (آسومي بوكتو).. إنها تتابع تدريبات فريق كرة القدم الأمريكية بالملعب المجاور..”
لم يعنى (خيري) بشكرها وهو يطير تقريبا باتجاه الملعب..
ثم ظهر (تونو) قبل لحظات من تجاوز (خيري) للبوابة، فتوقف لاهثا وهو يغمغم:
– “تأخرت!! من أين أتى الفتى بهذه السرعة الخرافية؟”
ثم اندفع نحو الملعب..
وهناك.. تناثرت الفتيات المتحمسات فوق مجموعة من الكراسي تتابعن تدريبات الفريق وكل منهن تحاول إيجاد فتى الأحلام وسط هؤلاء الثيران الآدمية.. إلا أن عيون الغالبية كانت متعلقة بلاعب واحد تتابعه بإعجاب.. وفوق أحد الكراسي كان فتاة تمسك كم صديقتها وهي تقول:
-” ألم يحن الوقت لتقدميني لـ (فوجي) يا (آسومي)؟.. أنا أتحرق شوقا!”
تطلعت إليها (آسومي) في ضجر وهي تقول:
-” أخبرتك للمرة الألف أن لا دخل لي بالعلاقات العاطفية لأخي..”
مطت الفتاة شفتيها في خيبة، وتراجعت لتعتدل في جلستها..
وفجأة انسد حاجز النظر أمام (آسومي) بعد أن توقف (خيري) أمامها مباشرة، وتجمد مشدوها..
حملت ملامحها الجميلة صرامة شديدة وهي تقول:
-“أنت تعوق نظري!”
ابتسم (خيري) بافتعال وقال بهمس:
-“أريد أن أحدثك على انفراد لو سمحت!”
قابلت (آسومي) صوته الخفيض بصرخة غاضبة:
– “ماذا تريد!؟”
هنا التفت إليهما الجميع بدهشة، فاحمر وجه (خيري) خجلا، وابتسم بارتباك قائلا:
-“لا يوجد هناك توازن في ترددات حديثنا..”
تغيرت ملامح (آسومي) من الغضب إلى الدهشة، فهتفت:
-“ليس بيننا كلام انفرادي.. ثم من أنت أولا؟”
نفض (خيري) ارتباكه وخجله المصطنعين فجأة، وشد قامته وهو يقول باتسامة عريضة:
-“(أوكاياسو خيري).. طالب بالسنة الأولى..”
-“وماذا تريد؟”
-“ألا يمكننا الحديث على انفراد؟”
عقدت (آسومي) حاجبيها شأن من مل الأمر وقالت بصرامة:
-“كلا!”
هز (خيري) كتفيه بمعنى أن لا خيار هنالك، قبل أن يهتف:
-” إذن فأنا أحبك!”
لو ظهر (مايكل جاكسون) يرتدي جلبابا تقليدا مع حذاء رياضي وشاربه غير حليق لما كان لذلك تأثير يذكر أمام دهشة الحاضرين إزاء هذا التصريح السافر بهذه الطريقة العجيبة..
كان (تونو) قد اقتحم الملعب في هذه اللحظة.. و أثار انتباهه مشهد ثور آدمي يلبس لباس فريق كرة القدم الأمريكية وهو يندفع نحو (خيري) بلا هوادة.. فهتف بحنق:
-“أخبرتك يا (كايري) أن أخاها سيطحنك!”
كان (فوجي) -أخ (آسومي)- ينقض على (خيري) ف تلك اللحظة، فأغلق (تونو) عينيه خشية رؤية المذبحة.. ثم سمع صوت الـ”أوووع”، ففتح عينيه ليقابله مشهد (فوجي) وهو منحن بشدة وقدم (خيري) مدفونة في بطنه..فسقط فكه السفلي أرضا..
سحب (خيري) قدمه إلى مكانها وهو يقول لـ(آسومي) التي لم يحد نظره عنها ولو للحظة:
-“إن حبي صادق!”
تحجرت (آسومي) في مكانها وهي ترى أخاها بكل قوته البدنية وقد جندله صبي أصغر منه بمراحل بضربة واحدة..
ثم ارتفع صوت جرارات بشرية تكتسح الأرض.. كان بقية اللاعبين يندفعون نحو (خيري) وهم ينوون الفتك به..
تطلع إليهم (خيري) للحظة، ثم فر من أمام (آسومي) والفريق كله في أثره.. اختفى الجميع.. وساد الهدوء المكان إلا من أثر الغبار الذي خلفه اللاعبون.. ثم ظهر (خيري) مجددا وهو يركض جارا وراءه الجيش الجرار..
توقف أمام (آسومي) لثانية وهو يناولها قطعة صغيرة من ورقة.. ثم أكمل طريقه..
ألقت هذه الأخيرة نظرة على الورقة فوجت كلمتين: “لقد كنت…”.
رفعت رأسها مذهولة لتجد (خيري) يعود من جديد بقطعة ورق ثانية كتب عليها بنفس الخط المتعرج:
-” …أراك دوما…”
عاد (خيري) مجددا بقطعة ورق ثالثة واللاعبون وراءه دوما.. واستمر الوضع بتلك الطريقة:
-“… في ساحة المدرسة…”
-“… كنت تبدين…”
-“هادئة…”
-“… ورصينة…”
-” وغاية في …”
-“… الجمال..”
-” … والرقة…”
-” أنت لا تعرفينني…”
-” … لكنني أعرفك حق…”
-“… المعرفة.. أتمنى…”
-“… لو تقبلين…”
-” … لقائي…”
-“… أوكاياسو…”
-“… كايري…”
كان (تونو) يتطلع إلى مشهد القطار الراكض جيئة وذهابا، فابتسم وهو يقول:
-“هذا (كايري) الذي أعرفه..”
ثم انقلبت ابتسامته إلى ملامح رعب وهو يتطلع إلى (خيري) الذي كان يتجه نحوه وهو يصرخ:
-” أهرب يا (تونو)..”
وتجاوزه بلمح البصر مخلفا وراءه وحوشا آدمية سعرانة.. وأطلق (تونو) ساقيه للريح مجبرا
رمقت (آسومي) كتلة الوراق التي تكونت بين كفيها، ثم نقلت بصرها إلى بوابة الملعب التي لم يكن الغبار المتطاير قد هدأ بها بعد..
غزت وجهها ابتسامة على الرغم منها، وغمغمت:
-“يا له من فتى!”

* * *

أطل رأس المدرس (أوزوماكي) من باب الفصل لعشر ثانية قبل أن يسحبه مباشرة متفاديا سكينا ضخمة استقرت في الجدار خلفه.. ابتلع غصة خرافية، ثم وضع الخوذة الحديدية على رأسه، وتوكل على الله، ثم دفع الباب..
انطلق الضحكات والقهقهات الساخرة والتلاميذ يتطلعون إلى (أوزوماكي) الذي استقر في درع لفرسان العصور الوسطى.. وصرخ (تونو) متهكما:
-“شباب! (دون كيشوت) ذات نفسه قرر أن يلقي علينا الدرس اليوم.. أبشروا!”
رجت القاعة على إثر قهقهات (شيكي) المتحمسة، وهذا الأخير يردف:
-” ولكنه لن يجد هنا طواحين هواء ضخمة كي يقاتلها..”
ابتسم (تونو) بركن فكمه وهو يقول:
-“وماذا عنك؟”
-” أنا لا أقاتل طواحين الهواء.. ف… مهلا! هل تلمح إلى أنني ضخم كطواحين الهواء؟”

-” أنا لا ألمح.. أنا أجزم..”
-” إذا لم تحترم نفسك فسأبريك يا قلم الرصاص”
-” هذا لن يمنعني من أن أفرقعك يا قنينة الغاز..”
وفي اللحظة التي أطبق فيها كل منهما على ياقة الآخر اخترق المسافة التي بينهما بركار دوار تجاوزهما لينغرز رأسه في الحائط المجاور..
تراجعا برعب.. والتفتا إلى مصدر انطلاق البركار ليطالعهما وجه (خيري) الهائم وكأنه لم يفعل شيئا.. كان يضع قبضته المضمومة تحت ذقنه متكئا بمرفقه على الطاولة.. وكانت عيناه تجاوزان حاجز النافذة الشفاف نحو عالم آخر..
ألقى الاثنان نظرة رعب مجددا على الأداة المغروزة في الحائط الخشبي قبل أن يستديرا مجددا نحو (خيري) الذي لم غير وضعه قط.. اقتربا منه بأقصى هدوء ممكن، وقد كان هذا كافيا بالنسبة لـ(شيكي) ليزيح خمسمائة مقعد ويدفع ألف طالب في طريقه..
-“ما الأمر (كايري)؟”
قالها (تونو) بصوت خفيض قلق..
لم يتحرك في (خيري) سوى بؤبؤ عينيه الذي اتجه لهنيهة نحو صاحبه قبل أن يعاود التطلع إلى النافذة من جديد..
مضت دقيقتان والاثنان يحدقان ب(خيري) الجامد دون حراك.. ثم استسلما وقررا تركه وشأنه..
وحينما استدارا سمعا زفرة حارة فالتفتا إليه بسرعة، وهتف (شيكي):
-” على الأقل لم تصب بالخرس!”
ابتسم (تونو) متعاطفا وهو يهمس:
-” (آسومي).. أليس كذلك؟”
حرك (خيري) رأسه نفيا، فأضاف (شيكي):
-“وعلى الأقل لم تصب بالشلل أيضا..”
رمقه (تونو) بنظرة حارقة تراجع معها إلى الخلف خجلا وهو يغمغم:
-“أمزح فقط..”
تجاهله (تونو) وهو يضع كفه على كتف (خيري) ويقول:
-“لا داعي للإنكار.. لم أرك يوما بهذه الحال! إنها فتاة رائعة الجمال.. أفهم ذلك.. لكنك أصغر منها بسنتين.. وفي مرحلتنا العمرية هذه تبدو الفتيات أكبر من سنهن أصلا.. هذا يعني انك تبدو كابن لها حاليا.. فكيف تريد منها أن تستجيب لعاطفتك المحمومة؟”
هنا التفت (خيري) إلى (تونو) غاضبا، وصرخ:
-“قلت لك ان الأمر ليس ذلك.. ليس ذلك ما يشغلني حاليا..”
-“وما الذي يشغلك؟”
-” يشغلني أنني لا أفهم.. هناك شيء غير عادي.. شيء يسبب لي هوسا.. و أنا عدو ما أجهله.. ثم إنني أشعر الآن بشعور غريب حقا.. أشعر بجسدي يقشعر..”
لم يكد يتم عبارته حتى اقتلعت بوابة الفصل من مكانها.. ومن ورائها بدا مجموعة من المقنعين، وكل يمسك بسلاح يزن اطنانا..
وسمع الجميع صوتا خشنا يقول:
-“هذا هو الفصل المنشود..!!”

انتهت الحلقة الثانية

6 تعليقات

الحلقة الأولى: أوكاياسو خيري

ما قبل المقدمة
أمير الفرس: تقديم

ها قد حانت لحظة الحقيقة..
والحقيقة الوحيدة هنا هي أخذ القدمين نحو العنق حسب التعبير الفرنسي، أو إطلاق الساقين للريح حسب التعبير العربي..

لقد ظهر وحش (الداهاكا) أو وحش الضحكة، كما ينطقها (خيري) متهكما على لفظة (DAHAKA)..
و (الداهاكا) لمن لا يعلم هو وحش يحمي رمال الزمن.. وحش أسطوري لا يرحم..
لقد انتهك أمير الفرس حرمة هذه الرمال.. فوجب عليه الموت!

يمكننا أن نفهم نوعا ما سبب هذا الركض المحموم الذي يمارسه الأمير فوق شريط صخري ملتصق بحائط شبه متهدم، مطل على حافة هاوية سوداء بدون قرار..
التفاتة واحدة منه إلى الخلف تجعله يجفل و يكاد يفقد توازنه.. لم يكن المشهد المهيب لأذرع أخطبوطية تنبع من صدر (الداهاكا) محببا لو لاحظنا أنها تخترق كل شيء بلا رحمة.. حتى الجدران و الحواجز الصخرية..
ستلحق الأذرع بالأمير لا محالة، فهاهي ذي نهاية الشريط الصخري تبرز معلنة نهاية اللعبة..

لم يكن الوضع يسمح بإنهاء حياة الأمير بهذه الطريقة، فهذا ممل حقا لو نظرنا إلى المسافة الكبيرة التي عليه أن يقطعها من جديد لو توفي.. يمكنكم أن تفهموا مثل هذه الأمور طبعا..

فجأة تباطأ كل شيء، و بدأت المسافة بين الأمير والوحش تتمدد.. إنها قدرة تبطيء الزمن السحرية التي اكتسبها الأمير مؤخرا.. صحيح أنها تستهلك كرة رمال سحرية في كل مرة، لكن هذا لا يهم.. فلا يحتاج الأمير سوى قتل عدو ضعيف حتى يحصل على كرة أخرى و بدون دفع أي رسوم أو ضرائب..

إنه الآن في مواجهة الحافة الشريط غير المكتمل.. لقد دمر منه جزء يتجاوز الست أمتار، ولن يتمكن من القفز المباشر.. لذا اندفع بمحاذاة الجدار الصخري، و حينما وصل الحافة قفز راكضا بشكل أفقي فوق الجدار مصارعا الجاذبية بشكل مبهر.. و بالكاد استطاع الوصول بصعوبة إلى الطرف المقابل من الشريط المتهدم.. واندفع يركض من جديد..

لقد انتهى مفعول قدرة تبطيء الزمن.. (الداهاكا) يقترب من جديد، و خزان الكرات السحرية قد فرغ..

لا وقت للالتفات إلى الوراء.. فحينما يظهر (الداهاكا) يبقى النشاط الوحيد المسموح به هو الركض..

الطريق مسدود هذه المرة بجدار صخري مقابل.. سيصل الأمير إلى الركن بعد لحظات.. وعليه هذه المرة أن يجد الوسيلة للوصول إلى الضفة المقابلة عبر الهوة السوداء.. لم تكن المسألة هذه المرة مسألة أمتار، بل العشرات منها..

لفتت انتباه الأمير سلسلة أنابيب معدنية بارزة من الحائط المقابل من النوع الذي تعلق فيه الرايات.. و كانت ترسم طريقا نحو الضفة المقابلة.. عليه فقط أن يتحول ببساطة إلى قرد..

إن السبيل الوحيد للوصول إلى أول أنبوب هو الاعتماد على الجدار المقابل له.. لذا اندفع الأمير نحو الجدار مباشرة، وقفز ليقوم بأربع خطوات عمودية عليه، قبل أن يثني ركبتيه مستندا عليه، ثم يفردهما مجددا مستغلا ردة فعل الجدار ليقوم بقفزة جبارة، و يصل الأنبوب..

لا وقت لالتقاط الأنفاس.. تأرجح قليلا على الأنبوب و هو متعلق إليه بقبضتين من حديد، ثم قام بدورة كاملة كلاعب جمباز محترف ليحصل على قوة دفع ملائمة، وأفلت قبضتيه مندفعا نحو الأنبوب الموالي.. واستمر بنفس الطريقة حتى وصل إلى الضفة المقابلة..

تظن أن (الداهاكا) توقفه الهوة الضخمة؟ تكون مغفلا لو اعتمدت على ذلك..
هو لا يتمتع بلياقة بدنية كلياقة الأمير.. لن يفز بحركات بهلوانية.. لكنك دوما ستجده خلفك طالما كان يطاردك..
لا وقت للتساؤل عن الأسباب ومناقشة الإمكانيات إذن.. إنه الفرار المتواصل من جديد..

في هذه المرة، يقترب الأمير من بوابة الرمال الزمنية.. عليه أن يعبر مدخلا صغيرا ستارته حاجز مائي رقيق اخترقه الأمير بسرعة.. و اندفعت وراءه الأذرع الأخطبوطية.. لكنها توقف بمجرد لمس الستارة المائية.. أبخرة خانقة تصدر منها مصحوبة بصرخة ألم من (الداهاكا) الذي سحب كل أذرعه حانقا..

هنالك شيء يحد من قدراته إذن.. هناك شيء يؤلمه.. الماء عدوه الأول.. رائع!

عب الأمير الهواء بجرعات كبيرة، و اتجه نحو حوض المياه الجانبي ليجرع ما استطاع..

وفجأة، و الأمير يشرب، ظهرت نافذة عليها عبارات:

Save game ?

Yes

No

كل الوصف السابق مقتبس من لعبة « Prince of Persia (warrior withing) »

حفظ خيري اللعبة، و نزع عن رأسه خوذة اللعب السوداء المتطورة.. فرك عينيه حتى كاد يفقؤهما، ونفض رأسه محاولا إزالة تأثير الانبهار باللعبة..
كم هي رائعة هذه التكنولوجيا الجديدة.. لقد مضى عهد الخوذة ذات المجسات التي تحتاج إلى حركة مواكبة.. نحن الآن في عصر القوة العقلية التي تحرك كل شيء.. بل إن النظام يقنعك تماما بأنك تتحرك و تتألم أيضا.. تختلف درجة الألم بالتأكيد عن الألم الحقيقي، لكنها كافية لجعلك تحاول تفاديها ما أمكن.. و هنا تكمن روعة اللعبة..

– “(خيري)! الإفطار جاهز..”
كان هذا صوت والدته ينفجر كالعادة من الطابق السفلي ككل صباح.. غنها تملك مدفعا لا حنجرة..
اختطف سترته المدرسية السوداء، و لملم أوراقا مبعثرة فوق مكتبه داخل حقيبة بنية.. ثم ركض نحو السلالم.. كان يكره الطرق التقليدية، لذا امتطى الحاجز الخشبي للسلالم و تزحلق فوقه مطلقا صرخة مرحة على غرار رعاة البقر الأمريكيين:
-“ياهوووووووووووه!!”

تفرقع صوت أمه الحانق من جديد:
– “(خيري)!!.. ستتهشم عظامك يوما.. صدقني!”

ابتسم الفتى و قال متهكما:
-“بالتأكيد..”
-“ابتلع لسانك و أفطر بسرعة لتلحق بدروسك قبل أن أتكفل بتهشيم عظامك بنفسي!”

أطلق (خيري) ضحكة مكتومة و غمغم:
– ” أريد فقط أن أفهم كيف تزوج أبي بكل هدوئه هذا الإعصار المدمر الغاضب دائما و الذي يدعى امي!”

سكن البيت فجأة بعد عبارته الأخيرة.. أرهف السمع بحذر، فخيل إيه انه يسمع صوت شيء يحترق..
صوت خطوات راكضة من قلب جهنم، ثم ظهور خرافي لجسد والدته المشتعل في رواق المنزل وهي تطير تقريبا باتجاهه، و في عينيها التمعت نظرة حمراء غاضبة..

اختطف شطيرة جبن ومربى من فوق المائدة، واندفع يفتح البوابة الخشبية الكبيرة، قبل أن يطلق ساقيه للريح عبر الحديقة المنزلية الشاسعة.. كانت البوابة الحديدية الكبيرة مغلقة، ولم يكن ليتمكن من فتحها قبل أن تطبق أمه على رقبته.. لذا اتجه نحو السور العالي، وقفز نحوه بكل قوته.. استطاع أن يقم بثلاث خطوات عمودية أوصلته يديه إلى القمة، فتعلق بها ودفع جسده نحوا الأعلى، ثم قفز إلى الناحية المقابلة..
توقف ليلتقط أنفاسه المنبهرة للحظة، وتطلع إلى علو السور برعب، ثم ما لبث أن صرخ بنشوة.. لطالما راقته هذه الحركة في لعبة أمير الفرس، لكنه لم يظن قط أنها بهذه السهولة..

وانطلق يطوي الطريق خلفه..

* * *

– ” توقف عن البصاق في قفاي يا (تونو)! ”
– ” أنا لم أبصق في قفاك.. لقد عطست فقط.. ”
– ” إذن فأنت أول إنسان يمارس العطس من بلعومه.. ”
– ” وهل هناك أحد لا يفعل يا (شيكي)؟ ”
– ” كل الفيلة لا تفعل يا (تونو).. لكنك كسرت هذه القاعدة على ما يبدو.. ”
– ” بالتأكيد.. هذا لأنني… مهلا!! ماذا تعني هنا؟ هل تلمح إلى أنني بدين كالفيل؟ ”
– ” أنا لا ألمح.. أنا أجزم! ”
– ” سأحطم عظمتاك اللتان تفخر بكونهما جسدا.. ”
– ” و أنا سأفرغ جسدك المنتفخ من الهواء بشكة دبوس.. ”
– ” ماذا يجري هنا؟ ”
التفت الفتيان إلى صاحب العبارة التي ظهر على بوابة الفصل في اللحظة التي أطبق فيها كل منهما على ياقة الآخر.. فقال (شيكي) البدين:
– ” من هذا المغفل؟ ”
أرخى (تونو) ياقة صديقه، و ألقى نظرة جذلة على الرجل قبل أ يهتف:
– ” يبدو أنه المدرس الجديد.. ”
تراجع (شيكي) ليجلس في مقعده قائلا:
– ” وهل يعطه هذا الحق بالتدخل فيما لا يعنيه؟ ”
استرخى (تونو) فوق مقعده بدوره وهو يجيب:
– ” بالتأكيد.. هذا من حقه.. ”
ثم وسع ابتسامته بشكل مبالغ به حتى حاكى وجه (ماك دونالدز) وهو يضيف:
– ” مؤقتا.. ”

كانت الجلبة لا تزال تجتاح جوانب الفصل رغم أن المدرس الجديد كان قد دخل بالفعل و بدأ يرتب أدواته..
طرق في البداية بظهر أصبعه على سطح المكتب..
– ” بلابلابلابلا…”
طرق بقبضته..
لا استجابة سوى:
– “بلابلابلابلا…”
زاد من قوة الطرق..
– ” بلابلابلابلا … ”
ارتفعت درجة احمرار وجهه. فرد راحته وضرب السبورة بكل قوته..
صمت..
وجوه تحدق فيه بملامح حملت قدرا من اللامبالاة يكفي لاستفزاز شعب من المدرسين..
ثم..
– ” بلابلابلابلا… ”
عاد الجميع للبلبلة كأن شيئا لم يكن..
هنا وصلت درجة احتمال المدرس إلى الصقيع فانفجر:
-” اصمتوا أيها الأوغااااااد!!! ”

هنا انقسم المشهد إلى ثلاث لقطات: منظر المدرس يلهث من فرط العصبية وهو يلعن في سره هؤلاء الشياطين الذين استفزوه لينطق عبارة غير تربوية كهذه.. ثم مشهد الشياطين أنفسهم وهم يحدقون بذهول في هذا المدرس الذي جرؤ على اللعب في عداد عمره.. و أخيرا، مشهد (خيري) المتأخر وهو يفتح باب الفصل ليفاجأ بالموقف السابق..

أراد (خيري) أن يعود أدراجه لكن المدرس صرخ فيه:
– ” أنت! تعال هنا! ”
تطلع الفتى حوله فلم يجد (أنت) آخر غيره.. فأشار بأصبع متسائل نحو نفسه..
– ” أجل أنت! ”
تنحنح (خيري) وهو يقول:
– ” آسف.. يبدو أنني أخطأت الفصل.. ”

هتفت فتاة من مؤخرة الفصل:
– “مرحبا (كايري)!! ”

قد ينتبه أقوياء الملاحظة منكم إلى الشبه الشديد بين (كايري) و (خيري).. الحقيقة أنهما اسمان لنفس الشخص..(كايري) اسم ياباني و ليس مجرد تحوير لاسم (خيري) العربي.. ربما لها السبب اتفق أبوه الياباني و أمه اللبنانية على اسم مزدوج كهذا..
ابتسم (خيري)، وفي قول آخر (كايري)، بارتياح وهو يرفع يده ليرد التحية.. ثم أدار بصره في الفصل قبل أن يهتف:
– ” هذا فصلي بالتأكيد ما لم يبدؤوا باستنساخ البشر على نطاق واسع مؤخرا.. ”
ثم أشار إلى المدرس بإبهامه وهو يضيف:
– ” ما مشكلة هذا المغفل إذن؟ ”
واستدار متجها إلى مكانه، إلا أن يدا غليظة أطبقت على قفاه، و أحس بجسده يرتفع بضع سنتيمترات عن الأرض قبل أن تطالعه عينان قدتا في سقر..

* * *

كان مدير المدرسة الإعدادية الخاصة، السيد (فوجي موتارا) يقوم بجولة تفقدية، فخطر بباله أن يلقي نظرة عابرة على المدرس الجديد الذي ورطه مرغما في تدريس الفصل الكارثة..
توجس شرا وهو يقترب من بوابة الفصل الذي تم عزله عن بقية الفصول لأسباب خاصة.. فغمغم:
– ” يبدو أنه كان علي تحذير (أوزوماكي) كي يستعد نفسيا على الأقل.. ”
كان الهدوء يسود المكان رغم انه وصل تقريبا إلى باب الفصل، فمد يدا مترددة كي يقرع الباب.. وقبل أن يتمكن من ذلك اخترقت مجموعة من السكاكين و السواطير خشب الباب من الداخل، وبدت أنصالها تطل من الخارج بتشكيلة هندسية مرعبة..

منع المدير قلبه من القفز من فمه، ومد يده بسرعة ليدير مقبض الباب و يفتحه ملقيا نظرة خاطفة داخل الفصل، وتراجع ليحتمي بالجدار.. و لما لم ير خطرا عاد ليطل من جديد فكان كل شيء على ما يرام.. التلاميذ في أماكنهم يتطلعون إليه بهدوء بريء و كأن شيئا لم يكن.. لكن تفصيلة صغيرة كانت تنقص المكان.. تفصيلة قفزت إلى لسانه على هيئة سؤال:
– ” أين السيد (أوزوماكي)؟ ”
ابتسم (تونو) ببراءة وقال:
– ” تقصد المدرس الجديد؟ ”
أومأ المدير برأسه إيجابا فأشار الفتى إلى الباب.. التفت المدير ليجد المدرس الشاب معلقا من ملابسها بالسكاكين و السواطير التي لم يخترق احدها جسده لحسن الحظ.. فابتلع غصة كبيرة كادت تخنقه، وخلص المدرس الذي لم يصب بأذى جسدي على الأقل، لكن الأذى النفسي كان يصرخ من عينيه الزائغتين..
جره المدير تقريبا إلى خارج الفصل، و أغلق الباب الذي لم يعد كذلك.. ثم..
– ” إنهم سفاحون! ”
كانت صرخة أخيرة من حنجرة المدرس المتحشرجة.. فربت المدير على كتف بتعاطف، وقال:
– ” ماذا حدث بالضبط؟ ”
ارتجف المدرس الشاب الذي لم يعد كذلك بعد أن ابيضت بعض خصلات شعره من شدة الهول.. وبدا انه يجاهد لاعتصار الكلمات:
– ” أردت أن أذبح لهم القط من اليوم الأول فكادوا يذبحونني شخصيا.. ”
ثم ألقى نظرة على الأنصال البارزة، وابتلع حلقومه بدل الغصة على سبيل التغيير، و أضاف
– ” أمسكت بتلابيب أحدهم في محاولة لإرهابه بعد أن نعتني بالمغفل، فإذا به يرفع قدميه ليدفع بهما صدري و يستغل ردة الفعل كي يقفز فوق رأسي بحركة عمودي دون أن يتخلى عن ياقتي.. ثم استقر ورائي ثانيا ذراعي نحو الخلف بعد أن كنت أنا من يمسك به.. وبعدها شعرت بقدمه تستند على ظهري، وفوجئت بنفسي أرتفع في الهواء و يلقى بي على السبورة.. ”
رفع المدير يده في إشارة بالتوقف وهو يهتف:
– “أمتأكد أنت أنك تتحدث عن تلميذ في هذا الفصل؟ أكبر فتى هنا لا يتجاوز الرابعة عشر من عمره.. أنت الآن تصف الرجل العنكبوت بدون شك.. ”
– ” أؤكد لك يا سيدي أن هذا ما حصل ”
ثم استند إلى الجدار في انهيار وهو يضيف:
– ” و ما إن نهضت من السقطة حتى وجدت هذه التشكيلة من السكاكين تندفع نحوي لتصنع بي ما رأيت..”

ربت المدير على كتفه مجددا وهو يقول:
– ” لا عليك.. ستعتاد على المر سريعا..”
تكونت فوالق جيولوجية فوق وجه المدرس من فرط الرعب.. وصرخ غير مصدق:
– ” مستحيل! لن أضع قدما، أصبعا، بل ذرة واحدة من ذراتي في هذا الفصل من جديد.. ”
نفض المدير عنه قناع اللطف فجأة وهو يجيب محتدا:
– ” إذن فلن تقبض راتبا، علاوة، بل ينا واحدا من هذه المدرسة.. و لا تعول على العمل بمدرسة أخرى لأنني لن أسمح بذلك.. فعلاقاتي أوسع مما تتصور..”
وخفف من حدة صوته مع انهيار الشاب، وعاد ينتقي قناعا جديدة من مجموعته ليقول:
– ” اسمع يا بني.. هذه مدرسة خاصة.. و آباء تلاميذ هذا الفصل بالذات يملكون أغلبية رأس مالها.. لذا لا نملك فعل شيء.. خصوصا و أنهم يبدون في غاية اللطف حينما يكونون مراقبين.. و الحقيقة انك الشخص الوحيد الذي تعاملوا معه بهذه الطريقة..”

ثم تنحنح وهو يضيف :
– ” من أول حصة..”

كاد المدرس يبكي وهو يقول:
– ” ومتى يذبحونهم؟ ”

أطلق المدير ضحكة مفتعلة وهو يقول:
– ” لا لا لا.. لا يوجد ذبح هنا..”
– ” يا سلام!! و ماذا عن كل هذه السكاكين والسواطير..؟”
– ” هذا مجرد مزاح بريء يا بني.. حاول أن تتكيف معهم فقط ..

* * *

المخرج الخلفي لمصنع إليكترونيات عريق..

هدوء يسود الجنبات..
يمتزج بظلام هشمه ضوء مصباح خافت..
وفي النهاية، أتت شاحنة نقل متوسطة الحجم لتهشم السكون بدوره..

أطلت الوجوه الصارمة من وراء مصراعي صندوق الشحن، لتستقبل ملامح التوتر التي طبعت ثلاثة رجال ينتظرونهم.

– ” هل البضاعة جاهزة؟ ”
نطقها أحد الواصلين، فهتف رجل من المنتظرين بنبرات متمترة وهو لايكف عن مسح نظاراته:
-” بالتأكيد.. كل الأجهزة في هذه الصناديق.. فقط، أسرعوا بالشحن! ”
بدأت عملية الشحن، وبدا ذو النظارات وكأنه قد وضع أعصابه فوق مقلاة زيت ساخنة، فلم تكف مقلتاه عن التقلب في محجريهما.
ومع وصول آخر صندوق إلى الشاحنة، انعقد حاجبا السائق فصرخ:
-” هناك ثلاثة أرقام تسلسلية غير مطابقة.. ثم إنه من الواضح أن الخوذات التي تحملها مجرد خوذات لعب عادية. ”
كان ذلك الزر الذي فجر أعصاب ذي النظارات:
– ” مستحيييييييييل!!! ”
هتف السائق حانقا:
-” يمكنك أن تراجعها بنفسك.. فأمر ال… ”
قاطعه بعصبية:
– ” ولكن هذا يعني أن … أن… ”
أكمل السائق:
-” هذا لا يعني سوى احتمالين: أنكم تتلاعبون بنا، أو أن خطأ ما قد حدث. حسنا.. لا يمكننا المكوث هنا أكثر من هذا حسب أوامر الجنرال، لذا عليكم حل المشكلة بأنفسكم.. بضاعة الجنرال يجب أن تصل إليه كاملة مكمولة حسب الاتفاق! ”

تطلع ذو النظارات بنظرة رعب إلى الشاحنة التي ابتعدت.. وحينما أفاق من شبه الغيبوبة التي اعترته، اختطف هاتفه الجوال بأصابع مرتجفة، وضغط زرا معينا، ثم انتظر أن يصله صوت المتلقي قبل أن يقول:
-” لؤي! ما أخبار دفعة ألعاب الخوذات الجديدة؟ ”
استحال وجهه ليمونة صفراء ممتقعة، فأقفل الخط وهو لاينبس. سأله أحد رجاله بحذر:
-” ما الأمر سيدي؟ ”
انهار ذو النظارات وهو يغمغم:
-” لقد تم تسويق المنتوج بأكمله.. كل خوذات اللعب بيعت في الساعة الأولى من عرضها.. إنها مصيبة! كارثة!! ”

وحلقت أفكاره بعيدا وهو يتصور كم المشاكل التي ستحدث بسبب هذه الخوذات.. بل و الأكثر من ذلك، كيف سيتصرف من اشتروها؟
وبقيت أفكاره تسبح محلقة مع التساؤل بدون هدف..

نهاية الحلقة الأولى

بقلم: عصام إزيمي

عن: رواق الأدب

6 تعليقات

أمير الفرس: تقديم..

ما قبل المقدمة

(أوكاياسو خيري)..
نصف عربي.. نصف ياباني..
فتى في الرابعة عشر من عمره يكتشف فجأة انه مميز..
مميز إلى حد لا يطاق..
فتى يجد نفسه في عالم لم يحلم به من قبل..

عالم يحمل الإثارة..
الكثير منها..
عالم يغوص في الأكشن..
المبهر منها..
عالم بهجته الكوميديا..
الممتع منها..

عالم يحمل معالم المانجا الرائعة..
و لكن، هذه المرة، بعيون عربية..

بقلم: عصام إزيمي

عن: رواق الأدب

الحلقة الأولى: أوكاياسو خيري

2 تعليقان

ما قبل المقدمة..

هذا مسلسل مكتوب طبعا..
ربما هو تصور لأنيمي أتمنى مستقبلا أن أستطيع تحقيقه لو أتيحت لي الإمكانيات..
إن ثقافة الأنيمي انتشرت بشكر سرطاني بالغرب.. لدى الكبار قبل الصغار..
هناك العديد من الذين يتصورون أن الأنيمي موجه للصغار بالضرورة.. وهذا تصور خاطئ بشكل كبير..
لقد أصبحت ثقافة الأنيمي تعوض الثقافة السينيمائية وتنافسها، وذلك عبر موضوعات تناسب الكبار قبل الصغار في الكثير من الأحيان.. فبدل أن تكون عبارة عن أفلام أو مسلسلات تتقيد بقيود السينما، فهي تتحول إلى أنيمي..

هناك المزيد من المغرمين بالأنيمي كل يوم بالمغرب، وقد بدأت هذه الثقافة تنتشر كثيرا لدى الطلبة بالخصوص بعد توفر التحميل عبر الأنترنت.. لذا أتت هذه السلسلة!! لإرضاء جميع الأذواق..
و لإرضائي شخصيا !!

جميع الحقوق محفوظة لموقع رواق الأدب الذي احتضن السلسلة وغيرها منذ البداية، وهو موقع أدبي متميز أدعو الجميع للاطلاع عليه..

أمير الفرس: تقديم..

Leave a Comment

لم أعد أجد العنوان

وسط حملة تنظيف الغبار وجدت شيئا ما.. ربما أمكننا بشيء من العسر تسمتيه قصة قصيرة..
هذه فقط عينة من النوع الذي كنت أكتبه من القصص القصيرة قبل خمس سنوات حين كنت أبحث عن النهايات الغريبة..
الآن.. وبعد كل ما رأيت وقرأت، بدأت اكتشف أن نهاياتي حينها لم تكن مبتكرة للغاية كما كنت أظن 🙂

—————————————————————————————————————

تيت!! تيت!! تيييييييييييييييييييييت!!!
***
تضغط القدم على الدواسة.. تئن العجلات من شدة احتكاكها بالأرض.. و تنطلق..
عشرات السيارات تحوم حواليك مواكبة سرعتك..

***
خمسون كيلومترا في الساعة..

***
كل شيء على ما يرام..
تراقب الآخرين بعين خبيرة و ثقتك تزداد بازدياد السرعة..

***
تسعون كيلومترا في الساعة..

***

تنفسك طبيعي.. أعصابك باردة.. و تحكمك حديدي..
السيارات من حولك تبدأ بالتراجع..
إن محركك قوي بالفعل..

***
مائة و خمسون كيلومترا في الساعة..

***

تبدأ مشاعرك في التجرد مما حولها..
المسار.. السيارات.. المسار.. السيارات..
المرتبة الأولى..
الكأس..
لا شيء يهم بعدها..

***
مائتا كيلومتر في الساعة..

***

السرعة المشؤومة تقترب..
أنفاسك تتلاحق..
دقات قلبك تتسارع..
اضبط نفسك..
المسار.. السيارات.. المسار .. السيارات..
لا شيء بعد ذلك..

***
مائتان و أربعون كيلومترا في الساعة..

***

هذل هذه أصابعك التي ترتعد؟ أم أنه اهتزاز المقود الطبيعي؟
لو اهتزت المقود إذن فلماذا ترتجف شفتاك؟
ستظهر الآن..
أنت متأكد من ذلك..
إنها تفعل ذلك دوما..

***

مئاتان و سبعون كيلومترا في الساعة..

***

ها هي ذي أمامك تبدو من بعيد..
تحدق بك بعينين فيروزيتين كالزجاج..
لا بد و أنك ستصدمها حتما بهذه السرعة..
تضغط الفرامل بحركات متتالية سريعة كي لا تنقلب بك السيارة..
تهتز مشاعرك و تدمع عينيك و أنت تتصور الجثة تطير ممزقة كالعادة..
ذلك المشهد الذي طالما مزق هناء حياتك..

***
المسار.. السيارات.. الفتاة..السيارات.. المسار.. الفتاة..

***

لقد توقفت السيارة أخيرا..
ربما أسرع من اللازم بالنسبة لسيارة تسير بتلك السرعة..
لقد اختفت ذات العينين الزجاجتين..
لكنك متأكد من أنك لم تصدمها..
ثم انطلقت صيحة الظفر من حلقك..
تطلعت بابتسامة تهكمية إلى العداد الذي ألصقت به ترقيما خرافيا جديدا..
أزلت اللصقة ليظهر من خلفها العداد الحقيقي و الذي لا تتجاوز سرعته مائة كيلومتر في الساعة..
تنزل من سيارتك العتيقة و أنت سعيد بأدائك الرائع هذه المرة..
أجل.. أنت تصلح لذلك الدور بالتأكيد..
هذا ما ستثبته لهم في ساحة التصوير بعد طول غياب..
غياب نجم..

3 تعليقات