بقلم: جمال بوالخورص
الفصل الثاني
وجدتها تكتب ذات صباح, وكنت قد علقْت في زحمة مرورية فتأخرْت. ولما دخلْت رفعَت عينيها نحوي وأخفت الورقة, تجاهلْت الأمر في البداية وألقيت تحية الصباح..
منحتني ابتسامة هادئة كالمعتاد, وقالت:
-ظننت أنك لن تحضر..
-ليس اليوم, لدي عمل مهم لأنهيه!.
فتحَت ملفا وبدأت تنقل بعض الأرقام, ومن عاداتها الغريبة أن تنطق الكلمات بصوت خافت قبل أن تدونها.
-ماذا كنت تفعلين؟
-لاشيء!
-معك حق فهذا ليس من شأني!..
ثم زفرَت باستسلام أمام نظراتي الحانقة, أخرجَت الورقة من درج مكتبها وسألتني:
-هل تحب قراءة الخواطر؟
-لا أدري, قد أحبها لو كانت جيدة..
ومنحتني الورقة فأمسكتها, وقالت:
-ما رأيك بهذه؟
وبدأتُ أتلو ما كتبَت:
“أمس زرت قبرك..
وجدت الشّوك يغطّيه, وحين مددت يدي لأنتزعه أدمت أصابعي..
أمس زرت قبرك..
تركت دمائي فوقه , وكلّ قطرة دم صارت وردة حمراء..
اليوم , وأنا أقف جوار قبرك وجدت الورود تغطّي جوانبه, لم أستطع أن أقطف واحدة .. ليس لأنّني خشيت أن تجرحني.. بل لأنّي ما عدت أملك في عروقي ولو قطرة دم واحدة..”
000
كنت أنظف, واكتشفت أني لم اهتم أبدا بترتيب أثاثي أو تنسيقه, وكل همي هو أن أزيل طبقات الغبار قبل أن تترسب وتتحول إلى تل..
ولماذا اهتم بهذا وأنا الذي لم يستقبل أحدا؟
ثم سمعت طرقات على الباب ذات صباح, ولما فتحته استقبلني وجه جميل وعيون واسعة, وسمعت الفتاة تسألني:
-هل تسمح لي بدقيقة من وقتك؟
وظلت تتحدث لعشر دقائق كاملة, وفي النهاية أقنعتني بشراء مجموعة من الحيوانات البلاستيكية ذات قطع مغناطيسية. ألصقتها على باب الثلاجة, لكنها لم تصمد كما توقعت, فكانت تسقط بمجرد أن أفلتها. وأدركت أخيرا أن تلك البائعة المتجولة خدعتني.
ولما انتهت نوبة الغضب, أحضرت صمغا وألصقتها, ولم يكن الأمر سيئا كما توقعت. ولكن فكرة تعرضي للخداع استهلكت هدوئي..
ثم فكرت مليا, مالذي جعلني أقبل بشرائها؟ ألانني رغبت بذلك حقا؟ أم أن هناك دافعا آخر؟
وتذكرت نظرة الفتاة البائسة ووجهها الذي يجاهد ليخفي تعبه بابتسامة لا أدري مصدرها, واقتنعت أخيرا بأن الأمر يستحق, على الأقل منحت الثلاجة مظهرا مختلفا وأضفت إلى المطبخ بعض الألوان. وربما لو احتسبت كلمات الشكر الذي أغرقتنني بها الفتاة لمالت الكفة إلى ناحيتي..
000
-ألن ترحل؟
-لماذا أفعل؟ لم تنته الدوام بعد..
وأجابت ناهد:
-جميعهم سيرحلون مبكرا هذا المساء, كي لا تفوتهم المباراة..
وكنت ألزم البيت بدل الخروج إلى المقاهي التي تعج بمتتبعي البطولة الأوربية والمتعطشين إلى الأهداف, واستغربت هذا الحماس الجنوني والحب المحموم للكرة. فلماذا لا يترقبون النتائج مثلي في النشرات الرياضية؟
لماذا يحرقون أعصابهم ويستهلكون أضعاف ما يستهلكونه عادة من السجائر ويفتعلون الشجار؟ ويجد الواحد منهم نفسه في اليوم التالي ذاهبا على عمله وكدمة على وجهه إضافة إلى هزيمة نكراء لفريقه المبجل..
وبدل هذا كنت أنصت إلى الموسيقى وأحاول أن أتمرن على قيثارة اشتريتها منذ زمن, فأداعب أوتارها وأعزف بخجل..
تعودت أن أمشي وحيدا في أزقة لا تسكنها إلا الظلال, ظلال تعيسة تحاول أن تحاكي الأشياء, ظلال مشوهة تلتصق بالجدران, تزحف على الأرض ولا يصيبها البلل..
وماذا عن حياتي؟ ربما تكون بدورها مجرد ظل على جدران الزمن.
وأفقت من كابوسي ذات ليلة وقد أفزعتني الفكرة..
لا أريد أن أكون ظلا!..
——————————–
الفصل الثالث
سألتني ناهد وهي تجلس قبالتي وتتابع ترتيب الملفات:
-كم عمرك؟
وبدا واضحا أنها تستمتع بهذا الحديث, فسؤالها يتجاوز مجرد رقم قد تلفظه شفتاي, وأجبت:
-خمس وعشرون سنة..
-أنت تكذب!..
ولم أعرف لماذا نعتتني بالكذاب, ألأنني بدوت لها أكبر من عمري أم لأن عمري أكبر مني؟
ووجدت نفسي أقف أمام المرآة, أتأمل وجهي الذي لم تدنسه تأملاتي من قبل. أحاول أن أحفظ الملامح التي تعكس روحي على عيون الآخرين, ولما مللت من تفحصه بحثت عن وجه قديم ركنته في ذاكرتي..
وجه أبي!..
واكتشفت أني لا املك من صوره إلا النزر اليسير, وكلها متناثرة وسط أوراق إدارية قديمة ظللت احتفظ بها منذ زمن, ربما لأنها الدليل الوحيد المتبقي على وجوده.
ثم جمعت الصور ذات مرة وألصقتها على جدار غرفة نومي..
وكثيرا ما أخبرتني أمي أنني أشبهه, تقبلني وتحضنني بين ذراعيها وتبكي. لكنها سرعان ما تتراجع عن كلامها كلما مرت بنوبة غضب, كانت تتهمه بالخيانة وبتركه إيانا في عهدتها ونحن لا نزال صغارا, وأنه فظل الهرب بدل البقاء إلى جانبها. وربما كان كلام أمي السيئ عنه سبب كره لطيفة له, بل وسبب خلافها الجوهري معي.
وأذكر تلك اللحظات اليتيمة التي تسنى لي فيها العبث بأشياء أبي, فكنت اغتنم غياب أمي في العمل وأتسلل إلى غرفتها لأتفقد ملابسه, ألبسها وأستنشق عطره عبرها, أضع خاتمه وساعة يده.
حتى أنني قررت ذات يوم أن أفتح خزانة أمي, وسرقت منها ظرفا كبيرا لم أره من قبل ثم صعدت إلى السطح.. ولم أفهم سبب إخفاءه عنا حتى عثرت على شهادات طبية داخله, وصدمتني الحقيقة..
أبي لم يمت كما أخبرتنا أمي..
———————-
تابع>>
كن أول من يعلق على المقالة