تجاوز المحتوى

ظلال في جدران الزمن (5) (النهاية)

الفصلان السادس والسابع

الفصل الثامن
——————-

وجلسَت وحيدة على طرف المقعد, واعتراني الحنق منها ومن تصرفاتها الصبيانية. لكني لم أكن غاضبا حقا, لماذا أغضب مادامت هي الوحيدة التي تمكنت من إحياء روحي الذابلة. ومضيت أبحث عن زهرة بين الأعشاب الصفراء الجافة, وعثرت على واحدة فعدت أدراجي..
-أغمضي عينيك!…
-لماذا؟
-لا تكوني لحوحة, أغمضي عينيك فحسب..
ومددْت يدي إلى شعرها, وأدهشها ما فعلت بعدها. جثوت على ركبتاي ومددت يدي نحوها بطريقة مسرحية وتراخت الزهرة في قبضتي كأنها جسد ميت.
-ماذا تفعل؟
-انتظري!..
وزرعت الزهرة في شعرها, دنوت من خدها فلثمته. ولما تقابلت عينانا أدركت أن الأمر قد راقها حقا, وهمسْت حينها:
-لا تغضبي مني!.. تعرفين أني أحبك, لكني بالمقابل لا أريد أن تختبريني على هذا النحو..
-معنى هذا انك ترفض دعوتي..
-كلا, الحقيقة أنني أجهل تماما أين أصحبك!
-لا تقلق, سأدلك على مكان هادئ سيعجبك..
أحيانا تمنحنا الحياة قطرات من المتعة, لكنها للأسف لا تمنحنا ما يكفي لنطهر أنفسنا من بقايا الحزن.
لطالما فكرت أن القلوب المرهفة لعنة بقدر ما هي هبة, فالدموع التي يمنحها هؤلاء الحالمون الرومانسيون ليست سوى طريقة لتفريغ أزماتهم العاطفية, فحين يظهرون تعاطفهم بهمسات حنون أو دموع زاخرة فهم بذلك يريحون أنفسهم دون أن يتجرؤوا على منحك النصيحة الذي يعرفونه جميعا.
لا تبك لأن البكاء يجعلك تضعف!
وقد علمتني أمي ذات الشيء, فحين أخطأ أو أؤذي نفسي لم تكن تهتم بجرحي فتضمني, بل كانت تضربني حتى أني كنت أنسى ألم الجرح وأندم على ما فعلت, فلا أعاود الكرة من جديد, لأنني أدرك حينها سأذوق ألما مضاعفا. ألم الجسد والروح..

——————–

فاجأتني ذات مرة وقالت:
-هل تكره والدك؟
وتجمد الزمن لبرهة, فقد أذاب سؤالها المباغت ثلوج الحيرة في روحي.. أغرقت شواطئ نفسي واجتاحت كياني كله..
قلت بعد فترة:
-لست متأكدا!..
-وهل عرفت سبب انتحاره؟
-كلا! لطالما أخبرتني أمي أنني السبب وراء انتحاره, ولا زلت أجهل كيف.. كيف يمكن أن أتسبب في ذلك مادمت قد ولدت بعد انتحاره؟.. ماتت أمي قبل أن أعوام, لكنني لم أكن قريبا منها كفاية لتخبرني.. أنا متأكد أنني السبب حتما, فلطيفة تكن لي الكثير من الكره أيضا…
-يجدر بك أن تسألها إذن!.
-لا, لا أستطيع!..

—————–

كم أكره الوحدة في هذه اللحظات الكئيبة من حياتي! تلك اللحظات اليتيمة التي أشعر فيها برغبة في مصالحة الأشياء.. لا أستطيع أن أعيش حياتي وحيدا, لا أستطيع أن أكمل الدرب بروح منطوية وحيدة, لأنها ستموت في أية لحظة!..
لا أريد من الدنيا سوى الشعور بالسعادة, لست سعيدا هكذا! ولن أجد السعادة في اختلاطي بالآخرين, فماذا أفعل؟.
وتشردت أفكاري على قارعة الملل, وتشربت منه روحي فشلها كما الصدأ, واحتشدت في رأسي أفكار كثيرة, وتمنيت لو أتقياها فأرتاح. ونزلت إلى الشارع ابحث عن لذاتي الكريهة عن متنفس..
جلست في أحد المقاهي لأول مرة.. رحت أنصت لضحكات الآخرين وشكواهم, لأصواتهم الصاخبة وهمساتهم المنكسرة..

—————–

وصلتني رسالة شكر من لطيفة. وجدتها تحت الباب لذا عودتي, ألقيتها على الطاولة بجوار التلفاز, والغريب أن الأمر لم يدهشني بقدر ما بث الذعر في نفسي..
كنت قد اشتريت للمولود المنتظر مهدا وأرسلته, لكني لم أتوقع أن تراسلني لطيفة وهي التي لم تشعرني أبدا بشيء.. رحت أرمق المظروف بكثير من الحيرة. لا أذكر أن أختي لعبت معي يوما, حتى أنني لم أكن أناديها باسمها.. ولما رفعت المظروف من جديد تفحصت كتابتها الرقيقة, حروف صغيرة متلاصقة..
ثم فطنت إلى أمر آخر, هذا الخط يشبه خطي تماما!..
وترددت بحيرة: هل أفتحه؟
وفي وقت متأخر من الليل تلقيت اتصالا من زوجها, أخبرني أنها ماتت وهي تلد..
-والمولود؟
-لم تكتب له الحياة!!

——

الفصل التاسع
—————
كنت استحم عندما هالني مظهر الندوب على صدري, جروح قديمة تعود إلى طفولتي.. بعضها بسبب أمي, وأخرى تعمدتها لعل الألم يعوض ما أحس به من كراهية حيال نفسي!.. والغريب في الأمر أن الألم كان يتلاشى بسرعة مما دفعني لأزيد جرعة التعذيب.. لكن, هل يستطيع الألم أن يحل مكان المتعة؟
ربما يكون الألم مصدر المتعة, فالألم في حد ذاته تعبير عن إحساسنا بشيء ما, شيء لا نستطيع وصفه بكلمة أخرى غير الألم.. فالأسماء مجرد كلمات من قاموس جاهز مسبقا, ولا ننسى أننا من يمنح الأشياء أسمائها..
كنت أخرج في الليل لأتسكع في طرقات مدينتي النائمة. أحاول أن أحصي النوافذ القليلة التي يتسرب منها النور. واعتقدت في البداية أن ساكنيها يحبون السهر, وفكرت ذات مرة أنهم ربما نيام, وبسبب خوفهم من الظلام كانوا يتركون الأنوار مضاءة كما كنت أفعل صغيرا..
كنت أخشى الظلام في صغري, وأدركت حينها أن السواد لا يعني الخوف فحسب بل الحزن أيضا. لكني لم أمتلك الشجاعة الكافية لأعترف بذلك, كنت خائفا من إظهار خوفي ومشاعر مركبة مربكة لذاتي الصغيرة التي لا تستطيع أحلامها أن تتجاوز الحصول على قبلة نوم..
فكل ما أردته من أمي هو القليل من الإهتمام, القليل من الحب.. لكن وحين نفتقد أشيائنا الصغيرة نعوضها بأشياء أكبر وأضخم وأكثر أهمية. والأيام منحتني أكثر مما رغبت به يومها..
منحتني الاستقلال!..
فلماذا لا أشعر بالندم على أيامي الماضية؟ ألأنني لم أفق بعد أم لأنني كنت مستيقظا طوال فترة غيبوبتي..

————-

“أدرك يا حبيبي أنك إلى كلمات العشق..
يحملك الشوق..
كما إلى مروجها, تحن الزهور
كما إلى أعشاشها, تحن الطيور
لكني أخطها هنا, لتضيع بين السطور..”

قلت لها ذات مرة:
-ألا تجدين هذا غريبا؟
-ماذا؟
-أليس أنا من يجدر به أن يكتب لك شعرا؟
وهزت كتفيها بلامبالاة, وقالت:
-وماذا عساني أفعل؟ لا حيلة لي, ثم إن هذا ليس عيبا!
ولوحْت بالورقة في يدي, وقلت متظاهرا بالضيق:
-هل تحسبين أنك الوحيدة القادرة على هذا؟
-لم لا تريني ما تستطيع فعله إذن؟
وفطنت أن كل عباراتنا السابقة أسئلة, مجموعة من الأسئلة الخرقاء طبعا. لكنها تحدتني ولا أريد أن أفشل.. صحيح أنني لا أجيد الكتابة مثلها, لذا فكرت أن أعزف لها قطعة من القطع المفضلة لدي..
وجال بصري عبر الحديقة بحثا عن أولئك الصبية الذين رأيته قبل قليل, كانوا يعزفون في الركن البعيد..

——————-

ترددت كثيرا قبل أن أدخل. كانت هناك صالة صغيرة تتوسطها طاولة زجاجية, جلست على الأريكة ورحت أقلب المجلات بكثير من الملل.. الجدران مطلية بلون برتقالي, لون دافئ جميل أشعرني بالإسترخاء, وكانت الموسيقى الهادئة تتردد عبر المكان لتروي قلقي..
ثم انفتح الباب, رآني فأشرق وجهه بابتسامة كبيرة ودعاني لأدخل..
-يجدر بك أن تملأ الاستمارة!..
قالها بحزم بعد أن مزْقت الورقة, ولكن صوته الحاد لم يتمكن من محو ابتسامتي. ظل يحدق بي من وراء نظاراته الطبية لبرهة ثم اتكأ على كرسيه الكبير. وتابع بعد أن عجز عن فهم سر صمتي:
-كيف تريدني أن أساعدك مادمت أجهل كل شيء عنك؟
-أريد شخصا يسمعني فحسب..
-ولم أنا بالذات؟ لست مضطرا لتحمل كلفة استشارتي, بإمكانك أن تكلم أي شخص آخر, أحد أصدقائك مثلا!..
-ليس لي أصحاب!..
ومضت نصف ساعة وأنا أتكلم, وفي النهاية استوقفني وقال:
-ولماذا تستغرب الأمر؟
-لأنه من غير المنطقي أن تموت لطيفة في ذات اليوم الذي تسلمت فيه رسالتها.. اعتقدت في البداية أنها صدفة ربما, كأنها استشعرت الأمر ورغبَت عبر رسالتها في مصالحتي.. تماما كصحوة الضمير التي تصيب المرء وهو يحتضر, لكني فطنت إلى السبب أخيرا… أنا قتلتها!
ظل يرمقني بهدوء مصطنع, لكني عرفت أن عبارتي قد صدمته, فلماذا ارتعشت يده إذن؟
وهنا أخرجت صورة لي وأنا صغير, كنت أفق فيها إلى جوار أمي بينما أختي في حضنها.. والغريب أن أختي كانت أكبر من أن تُحمل على عكسي, فقد كنت صغيرا جدا, فرحت أتشبث بفستان أمي وأحدق فيهما!
منحته الصورة, وقلت:
-هذه أختي..
-لا أراها!
-ماذا تعني؟ إنها هنا في حضن أمي..
ورأيت نظرة الغضب التي لمعت في عينيه, وبعدها صاح:
-هل تسخر مني؟ لا يوجد سواك في هذه الصورة!
-أعرف!أردت أن أتأكد من صحة ظني فحسب..

—–

الفصل العاشر

———————

لم أكن يوما راضيا عن نفسي, وكأن حياتي كلها في النهاية ندم كبير, وتمنيت لو تلعق كلمات ناهد كل اللحظات المريرة التي عشتها..
واحتضنتها برفق, ولما رفعت وجهها نحوي قبلتها.. وشربت من نبيد شفتيها حتى الثمالة, لكن القبلات الأولى التي سرقناها من الزمن ومن الناس لم تسقني بل تركت في روحي عطشا أكبر..
ركبت الباص لأول مرة هذا الصباح, وجلبت وردة حمراء وضعتها على مكتب ناهد. انتظرتها طويلا لكنها لم تحضر. وطال غيابها هذه المرة, أربعة أيام مضت دون أن أعرف عنها شيئا. وبقيت في المكتب وحيدا, ولم تكن الوحدة تزعجني بقدر ما يزعجني غيابها..
ربما كانت مريضة!
قالت لي آخر مرة:
-هل ستفتقدني؟
-ماذا تقصدين؟
-لو قررت أن أرحل يوما, هل ستحزن؟
-بالتأكيد! لكني لن أجرؤ على منعك, والدك رحل دون أن يودعني بدوره.. كنت أحبه حقا!. وربما كان تعلقي به محاولة يائسة مني لأذوق مشاعر الأبوة التي لم احظ بها قط..

———————–

-أخبرتَني في البداية أنها ماتت وهي تلد, فلماذا تقول أنك قاتلها؟
-لأنها موجودة هنا! في رأسي وحسب.. لقد اختلقتها!!.. لقد لقيت معاملة قاسية من قبل أمي. لم تشعرني بأنني ابنها يوما, كانت تضربني وتسيء إلي طوال الوقت.. لكن وبدل أن أكرهها كرهت لطيفة أختي, فكانت الشماعة التي علقت عليها حقدي وكرهي كله..
-أهكذا تفسر ما حدث إذن؟
-لا تنس أنك الخبير هنا.. أنا أخبرك بما اعتقده فحسب, ما رأيك أنت؟
لم يجب, خلع نظارته وحك أسفل عينيه, ثم سألني:
-وماذا عن انتحار والدك؟
-ليس غريبا أن ينتحر أبي! كان مجنونا ولم يتوقف يوما عن أذية نفسه, بل تعدى ذلك وصار يضرب أمي.. ولما علم بحملها اعتدى عليها وكاد يتسبب في إجهاضها, لكني نجوت بأعجوبة, لذا خيرها بيني وبين حياته..
-وكيف عرفت ذلك؟
-قرأت ملفاته الطبية!..

———————–

وجاءني طلب من المدير, صعدت الدرجات المؤدية إلى مكتبه. طرقت الباب فدعاني للدخول.. ولوهلة ظل يحدق بي كأنما يراني لأول مرة, ولم استغرب الأمر فهو لم يرني منذ زمن.
-منذ متى وأنت تعمل في الأرشيف؟
-منذ ست سنوات ونصف سيدي!
-جيد! معنى هذا أنك تملك خبرة كافية لتتولى مهاما أخرى.. لكن أخبرني أولا, كيف تمكنت من تحمل العمل في ذلك المكان لوحدك؟
وحين غادرت مكتبه كنت قد تلقيت ترقية, لن أعود إلى الأرشيف بعد اليوم.. هناك مكتب بانتظاري, مكتب أوسع ذو نوافذ كبيرة ويعج بالموظفين!..

———————-

ماتت أمي في ذات اليوم الذي غادرت فيه المنزل لألتحق بالعمل, حين أخبرتها برحيلي لم تنبس ببنت شفة, فقد حسبت أنها سترفض ولم تفعل..
ولم أكن أقرب غرفتها في حضورها, وفكرت أن أودعها لكني خشيت أن أوقظها من النوم. وعرفت أنها ستضربني قطعا لو فعلت, فمزاجها يكون متعكرا في الصباح, ولن تهدأ قبل أن تدخن لفافتين أو ثلاثا فقد كانت تدخن بشراهة!..
فتحت غرفتها, تسللت بهدوء إلى السرير.. ولما دنوت من جبينها ولثمته أدركت أمرا.. كان جسدها باردا, وعلى شفتيها ابتسامة شاحبة!.
حملت حقيبتي وغادرت, وبعد أسبوع اخبروني بوفاتها.. قالوا أنها ماتت قبلها لكن أحدا لم يكتشف الأمر, ليس قبل أن تفوح رائحة جثتها وتزعج الجيران!..

—————–

وهنا قررت أن أنهي هذا الحوار الذي بدأ يثير أعصابي, فقلت:
-هل استطيع الإنصراف الآن؟
وظل يرمقني لوهلة..
-ليس قبل أن تعدني بالعودة!..
-لا تقلق يا دكتور!.. لن انتحر لو كان هذا قصدك! انتحر أبي لأنه لم يرغب بمجيئي إلى هذا العالم, وبعدها انتحرت أمي لأنها لم تتحمل ابتعادي عنها.. ربما كانت تحبني رغم كل شيء, لكنني كنت أذكرها طوال الوقت بأبي الذي كرهَته! وكل هذا يبقى مجرد احتمالات أحاول أن أضمد بها جراحي لأنني لن أعرف.. لن أعرف الحقيقة أبدا!!

———————–
النهاية
بوالخورص جمال
22/03/2006

تعليقات على الفيسبوك

Published inمحاولات

تعليق واحد

  1. جميل جدا مقالات رائعة وأفكار مختارة ..
    أشكر جزيل الشكر.
    وفي إنتظار المزيد.
    أحييك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.