تجاوز المحتوى

الشهر: مايو 2007

إعلان كوميدي

أحصنة تركض!
حوافر تشق طريقها عبر تربة حمراء، وذيول تهتز بحركة بطيئة رشيقة خلابة..
وفي مشهد سلس رائع تتحول الأحصنة إلى قطار سريع من نوع “الرصاصة”..
مشهد فذ: القطار يمر فوق قنطرة حديدية عملاقة معلقة في الفضاء فوق نهر رقراق صاف.. وعلى صفحة المياه تنعكس صورة الأحصنة ترافق حركة القطار بانسجام باهر..
بعض اللمحات الإخراجية، والمؤثرات البصرية بتقنيات ثلاثية الأبعاد.. تم يدخل القطار محطة متطورة لا أظن اليابان نفسها تتوفر على مثلها.. ويتوقف بكل سلاسة..
هناك.. يظهر رجل ذو ملامح أوربية أكثر من اللازم، يبتسم ابتسامة أسمج من اللازم، ويغادر تاركا عدسة الكاميرا تتجه لتلتقط مشهد ساعة حائطية عملاقة رائعة..
ثم اللقطة الكوميدية: “يظهر شعار ONCF الخاص بالمكتب الوطني للسكك الحديدية.”
أكتد أبكي من شدة التأثر، لكنني في النهاية لا أستطيع كتمان ضحكتي المجلجلة التي أطلقتها وسط الجماهير المندهشة في محطة القطار Casa port..
مشهد مرعب! مرعب!!
إن مسؤولي المكتب مولعون بالخيال العلمي على ما يبدو..عمل متقن رائع لا تأتي به إلا قريحة مخرج محترف موهوب، ومؤثرات بصرية ذات تقنية عالية.. المشكلة الوحيدة هنا تتلخص في سؤال واحد بسيط : “ما العلاقة؟”.. أين يتوقف الواقع ويبدأ الخيال في ذلك الإعلان المبهر؟ الحقيقة أن الجواب سيكون مخيبا للآمال، إذ أن الواقع لن يتوقف لأنه لم يبدأ أصلا! كل لقطات الإعلان خيال في خيال.. وخيال مغرق في الخيال أصلا!!
من المعروف أن الاعلانات تعتمد على تجميل المنتوج وإظهاره بأبهى حلة، لا أن تظهر ذهبا وأنت تتحدث عن خشب مثلا!
لا يزالون يملكون قطارات قديمة فقط، وحتى وإن كانوا قد أحضروا واحدة جديدة فهي ليست بالمستوى الرائع، ولا تفرق عن الموجود أصلا إلا بأنها من طابقين ولا تتوقف في أغلب المحطات الثانوية، مما يوحي بأنها أسرع! غير ذلك، لا أجد فرقا كبيرا! مع العلم أن أغلب القطارات الجديدة مركون حاليا في انتظار تحوله إلى كتلة حديد صدئة صالحة للاستهلاك المغربي المعتاد!
أما عن المسافر الذي يبتسم في بفرح في الإعلان، فلست أظنه يمت للواقع بأية صلة. فبغض النظر عن ملامحه الأوربية الواضحة، لا أحد يجرؤ على الابتسام في محطة القطار بعد تأخر هذا الأخير لأكثر من نصف ساعة، وهو معدل التأخرات المعتاد المألوف التي قد تصل إلى أكثر من الساعة والنصف في أيام الأعياد والمناسبات للضغط الشديد على القطارات.
دعني الآن أصف لك المشهد داخل أي قطار في يوم من أيام عطل الأعياد: باختصار، ستكون واقفا بتأثير الالتصاق. يمكنك أن تريح قدميك قليلا بتخفيف الضغط عليهما، أو رفعهما عن الأرض تماما دون أن تخاف من السقوط لأن الضغط الجانبي كفيل بحملك.
ستجد كوع أحدهم مغروسا في بطنك، ومرفق آخر يكاد يقتلع حنجرتك من مكانها، في حين يحاول ثالث إخراج إصبعه الذي دخل أنفك مصادفة، ورابع يخرم لك عينا كلما أراد أن يتحرك، ولا ينسى أن يعتذر إليك بكل تهذيب بأن يدوس قدمك وهو يجاهد للخروج في المحطة القادمة.
انس المرحاض لو كانت الطبيعة تناديك.. أما إن كنت مصابا بالتهاب البروستاتا، فمن الأفضل لك أن ترتدي حفاظات قبل الركوب.
انس تحريك أي طرف من أطرافك في حالة تنميلِه، فلن تستطيع ذلك قط..
انس محاولة النزول في أية محطة ثانوية، لأنك لن تصل إلى الباب في الوقت المناسب قط.. إلا لو كنت من أصحاب الجثث العملاقة من نوع البوابات المصفحة.. حينها يمكنك ببساطة أن تدهس عشرين مواطنا وتقتل مواطنا أو اثنين على سبيل الترفيه كي تنزل في المحطة التي تحب!
يتحدثون عن الراحة.. يتحدثون عن الأمان.. في حين لا يستطيع حتى ركاب الدرجة الأولى ضمان أمكنتهم أوقات الضغط الشديد بعد أن يهجم ركاب الدرجة الثانية على مقصورات الدرجة الأولى.. وإلى من يمكنك أن تشتكي؟ لا أحد طبعا في مثل تلك الأحوال التي يختفي فيها كل المسؤولين من القطار، ولا يستبعد أن يكون هذا الأخير يتحرك آليا بالبركة بعد أن يفقز السائق بدوره فارا من تلك المهزلة..
في عطلة عيد المولد النبوي السابقة، تأخر القطار في الوصول إلى مدينة مراكش لأكثر من ساعتين.. وحيث أن هنالك تذاكر للربط المباشر بين الرباط وجنوب مراكش عبر شركة الحافلات (سوبراتور) التي تنطلق في وقت محدد، فإن الركاب المتوجهين للجنوب لم يجدوا الحافلة بانتظارهم لإتمام الرحلة. لأن هذه الأخيرة كانت قد تحركت بالفعل. ثم بدأ الركاب بالمطالبة بحقهم، ولجؤوا إلى الاحتجاج مع ساعات الصباح الأولى، بعد أن لم يهتم أحد لأمرهم وشكواهم الهادئة.. حينها كان الرد المباشر هو حضور رجال مكافحة الشغب لا لشيء سوى لأن الملك كان في زيارة للمدينة ذلك اليوم، وليس من المستحب أن تصله بشائر أخبار من ذلك النوع..
هكذا يعامل المواطنون الشرفاء ببلدنا السعيد حينما يطالبون بحقهم بعدم التعرض للنصب والاحتيال.. بالعصى لمن عصا..
فهنيئا لنا بمكتب سككنا الحديدية..
وهنيئا لنا ببلدنا العامر!

8 تعليقات

الفنون جنون

تتوقف مليا أمام تلك اللوحة التشكيلية بالجدار!
تميل رأسك يمينا:بيضة مسلوقة!
تميل رأسك يسارا: بيضة مسلوقة!
تقترب من اللوحة فتكاد تقسم أنها بيضة مسلوقة..
تبتعد عن اللوحة فتؤكد قسمك بأنها بيضة مسلوقة..
تقرأ اسم اللوحة فتجد: “الحرية” !!!!
تحك رأسك.. تبحث عن علاقة الحرية بالبيض المسلوق.. ولو كنت من النوع المتحمس فقد تبحث عن صاحب اللوحة لتسأله، فيجيبك بعبارات من طراز “إن خروج الفرخ من البيضة يعبر عن انعتاق الذات الروحية من سجون الماضي.. هذا عن الفكرة السطحية التي تبدو للوهلة الأولى.. ولكنك إن ركزت في ضربات الفرشاة في الزاوية اليمنى السفلية، فستنتبه إلى لمسة العبودية الواضحة من احتكاك قشرة البيضة بأرض الواقع المرير!.. ثم إن …”..
بعد أن ينتهي من محاضرته الوجيهة، تلملم بقايا فكك السفلي الذي كنس الأرض كنسا وأنت تدليه ببلاهة.. ثم تقسم أنك لن تسأل مجددا عن أي شيء آخر بحياتك..

ياللهول!
ياللرعب المرعب!
لا بأس.. على الأقل هنالك لوحات حتى وإن لم تفهم معانيها فهي تحمل قدرا من الجمالية الفنية التي تمكنك من ابتلاع كل الخزعبلات المحاطة بها، وتكتفي بأن تتذوقها بإحساسك الخاص.. ولكن المشكلة الأفظع، هي حينما يحضرون لك مجموعة من اللوحات التي يمكنك اختصار وصفها في كلمة واحدة : “شخابيط”، ثم يصرون بعد ذلك أنها لوحات الفنان التشكيلي “المبدع” فلان الفلاني (دائما تجد أسماء من الوزن الثقيل اجتماعيا كـ (بنيس) و (الشرايبي) و غيرهم).
لا زلت أتذكر لوحات “الشعيبية البدراوي” التي اتهموها ظلما أنها فنانة شعبية فذة، ترسم بأصابعها فقط مستخدمة ألوانا من الثرات الإنساني.. وتعطى للوحاتها أبعاد سوسيولوجية ثقافية خرافية رغم ان السيدة أمية أصلا.. ثم يأتون في النهاية ليخبروك أن الإبداع بكر غير مقيد بغبار الثقافة..
الناظر إلى لوحات “الشعيبية” يرى لوحات من التي يبرع بها أطفال الست سنوات، من وجوه وشموس صبيانية وغير ذلك من اللوحات التي رسمت شخصيا المئات منها حينما كنت صغيرا دون أن يتهمني أحد بأنني فنان..

اليوم، و بعد انتهائي من تناول وجبة الغداء بمطعم “صندوق الإيداع والتدبير”، خرجت إلى الردهة التي يقيمون بها معارض تشكيلية متتالية.. اتجهت نحو لوحة من اللوحات فوجدت التالي: شريحة إليكترونية ملئية بالمضخمات العملياتية والمقاومات والمكثفات.. مغروسة في قطعة مربعة من الصلصل، وبجانبها غرست بوحية فسيفسائية صغيرة، وفوقهما شريحة هاتف خلوي..
بقيت للحظة مشدوها.. ما هذا بالضبط؟
ذهبت لألقي نظرة في قائمة الأثمنة فوجدت “اللوحة” إن كان لنا أن نسميها كذلك تساوي 8000 درهم (ما يعادل 1000 دولار تقريبا)..
وفي تلك اللحظة ركضت عاربا كي لا أنفجر ضحكا في المكان!
اللهم لا نسألك رد القضاء، وإنما نسالك اللطف فيه!

13 تعليق