تجاوز المحتوى

الشهر: نوفمبر 2007

من الذي يحب الدار البيضاء؟

“سوف تحب الدار البيضاء..”
“ما إن تألفها فلن تستطيع عنها فراقا..”
“سوف ترى!..”
ما الذي سأراه بالضبط؟ ما الذي سأحبه؟ وما نوع الألفة التي يمكنني أن أنسج مع مدينة كهذه؟
إن البيضاويين غريبو الأطوار بالفعل.. فكيف يمكن لإنسان يحترم نفسه وصحته وبدنه أن يحب مدينة كهذه؟

عن التلوث:
جرب أن تخرج في جولة بالمدينة وأنت ترتدي ملابس بيضاء مثلا، وأخبرني عن اللون الذي تراه بعد أن تخلعها مساء..
أفهم الآن لماذا نرى في إعلانات مساحيق الغسيل قمصانا بيضاء يضعها الزوج سوداء وكأنه كان في ورشة ميكانيكية. الحق أن جولة يوم واحد بالدار البيضاء لكفيلة بأن تجعل البقع لا تزول إلا برمي الملابس في القمامة.. هكذا تزول من أمام ناظريك فقط! كيف لا وأنت تتمتع بحمام دخان أسود كلما مرت بجانبك شاحنة أو حافلة من القرن الحجري؟
انظر إلى البنايات التي من المفترض بها أن تكون بيضاء.. لماذا لم يسموا المدينة بالدار السوداء؟

عن الأمان:
هاتف نقال جميل.. حلي أو مجوهرات.. أو حتى سترة جميلة المظهر.. كلها أشياء تخاطر أيما مخاطرة بحملها والمشي في الشارع.. سيوف من عصر الموحدين، وسكاكين جزارة، وأشياء ممتعة من هذا القبيل قد تستقبلك في أية لحظة، ومن وراءها تطل وجوه بأسنان نخرة تطالبك بجواز المرور..
منذ فترة تمت إعادة فتى إلى الرباط بملابسه الداخلية بعد أن وصل إلى (الدار البيضاء الميناء) في التاسعة ليلا.. أي أن الوقت لم يتأخر بعد وحركة البشر لم تخف وتيرتها..

عن العصبية:
إن سكان هذه المدينة المباركة من النوع الذي قد يقضم رقبتك لو قلت له صباح الخير.. هل تعرف وقود الكيروسين سريع الاشتعال؟ سكان المدينة يشتعلون أسرع، ولأقل سبب، ودون مبرر.. لذا عليك دوما أن تحفظ لسانك كي لا تعود يوما إلى بيتك مهشم الأنف، أو تهشم أنت نفسك أنف أحدهم وتقضي ليلتك في استضافة الشرطة اللطيفة المعشر..

عن الازدحام:
أردت الذهاب إلى الرباط في نهاية الأسبوع، واحتجت للوصول إلى محطة القطار (الدار البيضاء الميناء) إلى ركوب الباص رقم سبعة. كنت أحمل حقيبة ظهرية.. أغلقت بوابة الباص وبقيت الحقيبة معلقة من ظهري خارج الحافلة.. تخيل معي وضع الحافلة إذن.. طبعا كوع هذا مدفون في بطن آخر.. وأصبع هذا يكاد يخرم عين هذا.. والكل يكاد ينتحر من نقص الأكسيجين ومن فرط الحرارة.. فتاة تجلس وظهرها لزجاج الباص الأمامي، والسائق يصرخ كمتسول محترف أن “ساعدوني من فضلكم!”.. تتساءل عن كنه هذه المساعدة، وحينما يرتفع صوت بجانبك هاتفا بأن الطريق خالية، تكتشف أنه يساعد بالنظر إلى المرآة الجانبية التي يستحيل على السائق رؤيتها إلا لو كانت نظراته من القوة لتخترق الحائط البشري بجانبه..

كيف إذن تريدون لشخص مثلي، ينحدر من مدينة صغيرة هادئة آمنة ألف التجول بها في الثالثة صباحا دون أن يسأله احد كم الساعة، أن يألف مدينة كالدار البيضاء، بل ويحبها؟
ما المميز بهذه المدينة غير الصراخ الذي لا ينتهي؟ غير البنايات المملة؟ غير الفساد وانعدام الأمن واللائحة طويلة؟
فليخبرني أحدكم!

32 تعليق

يوميات بيزو خانز (1)

ليلة أكثر سوادا من كحل العيون قضيتَها في الطريق من بلدتك الصغيرة إلى الرباط. حافلة يفترض بها أن تكون مريحة! لكنك دفعت ثمن هذا الافتراض غاليا.. دفعته على شكل مقعد لا ينثني، يجعلك تجلس كالبوم طوال الطريق.. دفعته على شكل محرك لا يكف عن العويل مضيفا مؤثرا صوتيا فذا ساهم في رسم سيمفونية الأرق التي تمتعت بعزفها لا محالة.

تصل إلى الرباط مهشم الأوصال. تبحث عن يدك اليسرى فتجدها وراء قفاك مباشرة.. تبحث عن كوعك فتجده مدفونا في بطن رفيقك بالرحلة، في حين يخرج هو يده اليسرى بصعوبة من فمك. تكتشفان أنكما بحاجة إلى دليل (Catalogue) لإعادة تركيب أشلائكما.

أمامكما الآن إحدى مهام (سيزيف) البطل الأسطوري: حمل جبال الأمتعة التي أحضرتماها معكما وكأنكما مهاجران من (تمبكتو)، والوصول إلى المعهد الذي ستبدآن به دراستكما.. “المعهد الوطني للإحصاء والاقتصاد التطبيقي”. لم تكفا طيلة الطريق عن الحديث عن (البيزوطاج) وعن الأساطير التي تحاك حوله، والتي شنٌفت آذانكما من مختلف المصادر. لذا توقعتما أياما أسود من كل قلوب كفار قريش مجتمعين.

تركبان سيارة شحن صغيرة، كان صاحبها الوحيد الذي قبل أن ينقلكما دون أن يحطم جيوبكما. أنتما أذكياء جدا، لذا تطلبان منه التوجه إلى بوابة الداخلية مباشرة وأنتما متأكدان أن الآخرين، الأغبياء، سوف يتجهون إلى الباب الرئيسي ثم يدخلون. لقد كانت لديكما معلومات أكيدة أن التسجيل يكون في باحة الداخلية. أنتما أول من يصل لدهشتكما، والساعة قد قاربت الثامنة إلا ربع. توقعتما أن تجدا طوابير طويلة كما حدث أول مرة في الأقسام التحضيرية، ولكن لا شيء.. الخواء هو عنوان اللوحة.. لا طلبة ولا موظفين ولا قطط حتى..

ترجعان الأمر إلى أن العقلية (الرباطية) ستكون مختلفة حتما عن عقلية منطقتكما.

تجلسان فوق أحد المقاعد الحجرية التي تعانق الجدار على طول البناية اليسرى من المدخل، وتنتظران أول الوافدين الذي لن يكون سوى أحد القادمين من مركزكما حتما.

وقد كان.. إذ دخل (عثمان) من البوابة مجاهدا في جر أمتعته.

عناق.. فالقبلة الرباعية الشعبية الشهيرة الشنيعة.. ثم تجلسون لتتسامروا حول الموضوع الشائق الشائك الذي يشغل تفكيركم جميعا: (البيزوطاج) طبعا.

يخرج رجل نصف حليق من بوابة بناية الداخلية..

طول بعرض بكرش بارتفاع.. هذا هو الوصف المناسب له. يتطلع إليكم بنظرة غريبة، ثم يتجه نحو (عثمان) مباشرة، و يغمغم بصوت متحشرج:

– ” أعطني أوراقك !”

يتطلع إليه (عثمان) باستهجان، ثم يبتسم بسخرية قائلا:

– “أعطني أوراقك أنت أولا!”

يعقد الرجل حاجبيه في ما يشبه الغضب، ويقول:

– “لا تريد أن تتم التسجيل؟”

– “ليس بعد! سأنتظر أن تفتحوا المكتب أولا..”

– “أنا من سيقوم بذلك أصلا..”

– “لا بأس.. أعطيني علامة.. إمارة.. رخصة قيادة.. ورقة رمادية.. أي شيء…”

– “تهرج؟ حسنا.. لن تتم تسجيلك لهذا اليوم!”

– “هذا ما سنراه!”

يحملق الرجل نصف الحليق فيكم بنظرة شذرة تبادلونه إياها بأخرى مشمئزة، فيترككم ويرحل متوعدا إياكم بالعودة لاحقا.

هو طالب إذن كما توقعتم.. ياللهول!! لو كانت هذا الفحل كله طالبا، فكيف سيكون مسئولو وإداريو المعهد؟ عمالقة أسطوريين؟

 

تصل في تلك اللحظة فتاة ترافقها والدتها وتجر معها حقيبة مرعبة الحجم. تسألكم الأم إن كان التسجيل قد بدأ، فتجيبون بثقة أن “ليس بعد!”. هنا يخرج طالبان آخران لا يزال العمش يطمس عينيهما. يتطلعان إليكم في دهشة، ثم يسألانكم إن كنتم قد أتممتم التسجيل بالخارجية أولا. تحركون رأسكم نفيا بشمم لم يتمتع به اللورد (كرومر) نفسه، فيبتسمان في سخرية، ويشيران إلى الطريق الداخلي المؤدي إلى الخارجية.. يشرحان المسألة لكم في بضعة كلمات لطيفة تذيب حاجز التوتر نحوهما، لكنها ترفع من حاجز الإحساس بالغباء إلى سقفه العلوي.. التسجيل يتم بالخارجية أولا.. يالهول!! ستجدون شعبا هناك..

تهرولون جميعا إلى المكان تاركين أمتعتكم بيد الله (لا أتحدث هنا عن الوزير السابق طبعا). وكان ما خشيتموه.. كان مدرج صغير شبه ممتلئ ينتظركم.. تدخلون وأنتم تتوقعون أنكم لن تخرجوا قبل الظهيرة على أحسن تقدير.. إلا أن المفاجأة السعيدة كانت بالانتظار: التسجيل كان يتم بالترتيب الأبجدي.. هذا يعني أن كل من بدأ لقبه بحرف “Z” قد حكم عليه بالإعدام مللا، و بأن تصل لحيته إلى الأرض بانتظار دوره. إنه الغباء الإداري في أشنع صوره..

كان رفيقك (عبد الله) هو أول من استفاد من ذلك الغباء، وخرج وهو يحييك بابتسامة من نوع “لقد سبقتك”.. فتجيبه بدورك بابتسامة من نوع “تبا لك!”..

وحينما تتم العملية بدورك، تهرع لتلحق بما تيسر من غرف مناسبة.. و هناك، في ممر ضيق يفصل الملاعب عن باحة الداخلية.. حيث صواريخ الهواء التي تقتلع صدرك وأنت واقف.. هناك كان (عبد الله) واقفا على ركبتيه وهو محاط بأكثر من ستة طلبة قدامى.. إنه أول ضحية لهذه السنة كما ستعرفون فيما بعد.. هذا هو ما يسمى بحظ الدجاجة.. تظهر أولا، فتذبح أولا!تتظاهر بأنك الرجل الخفي، وتمر بجوار الجمع المنشغل وكأنك غير معني بالأمر. ولدهشتك لا يهتم أحدهم لأمرك وكأنهم انغمسوا تماما في ما يمارسونه على صديقك من أوامر.

تجد مجموعة أخرى من الطلبة الجدد قد بدأت عملية التسجيل بالفعل، غير عالمين بما يحصل بالجوار، وإن كان جو من التوتر مخيما على المكان.. تضع أوراقك في مجموعة صف الانتظار، وتحاول أن تتوارى عن الأنظار بجوار شجرة (مزاح) كبيرة.

– “(بيزو).. تعال إلى هنا يا (بيزو)!”..

إن أحدهم ينادي على المدعو (بيزو)..

– “(بيزو) نظارات.. أنا أتحدث معك!”..

أنت الوحيد الذي يرتدي نظارات في المجموعة الواقفة، لكن من قال أن اسمك (بيزو)..

تتظاهر بأنك أعمى أصم أخرس أحول لو استدعى الأمر.. إلا أن تلك اليد التي توضع على كتفك، وذلك الوجه الذي يطالعك بابتسامة كريهة، وصاحبه يسحبك خارج الجماعة، ويتوجه بك إلى مجموعة من الطلبة القدامى.. كل هذه المظاهر تعلن لك بوضوح أنك قد وقعت!

تابع القراءة: يوميات بيزو خانز (2)

1 Comment

بداية الحياة

حقا!!
إن الحياة قاسية جدا!
سيسخر أحدكم من عبارة كهذه.. وسيقول الآخر “هل اكتشفت ذلك للتو؟”.. و لربما ابتسم أحدكم في امتعاض قائلا: “لم يات بجديد!”..
بالفعل.. إنه كلام مكرر.. مللنا سماعه أو قوله.. ولو قال أحدهم أمامي العبارة من قبل، لأجبت ساخرا: “بالفعل.. الحياة قاسية، والسماء زرقاء.”..
ما الجديد في الأمر إذن؟ لا شيء سوى أنني بدأت حياتي العملية للتو، ورغم أن راتبي كمهندس مبتدىء يعتبر مرتفعا نوعا ما مقارنة بالمتوسط العادي، إلا أنني بدأت مؤخرا أصاب بالرعب حينما أبدا بوضع حساباتي لمصاريف الشهر القادم، وما علي من ديون مرتبطة ببداية العمل واستئجار الشقة وما إلى ذلك..
ياللهول! كلما خرجت لشراء بعض الأغراض المنزلية، عدت للبيت محملا بالأثقال التي تختفي تماما ما إن تدخل للشقة.. ثم أكتشف المزيد والمزيد مما علي شراؤه..
هنالك نظرية في علم الاجتماع تتحدث عن الانتقال الاجتماعي.. تقول النظرية ببساطة أن المنحدرين من طبقة اجتماعية معينة يجدون صعوبة خارقة في الانتقال إلى طلبقة اجتماعية أعلى، وذلك لأنهم يعانون من قوى خفية تجرهم إلى الطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها.. هذه القوى عبارة عن الأسرة والعائلة التي تحتاج منك دوما إلى دعم مادي أكبر متى انتقلت إلى مستوى مادي أفضل.. مما يجعلك تعود بفعل قوة القصورهذه إلى طبقتك المعهودة.. الحل حسب علم الاجتماع هو القطيعة التامة مع أصولك.. وهذا ما يفعله بالفعل أغلب الأغنياء الميسورين..
على العموم.. هذا الحل غير مقبول على الاطلاق بالنسبة لي، وعلي البحث عن سبل أفضل لتكون قوة الجر لدي أكبر من مقوة الطبقة الاجتماعيى التي انتمي إليها.. شيء أشبه بجر الطبقة إلي.. 😀
ما أتساءل يخصوصه حاليا هو الكيفية التي يتعامل بها أصحاب الأجور الضعيفة مع مرتباتهم الهزيلة في مدينة كالدار البيضاء مثلا؟ كيف يتعامل من يحصل على 2000 درهم شهريا مثلا، ويعول أسرة من أربعة أو خمسة أفراد، ويظل حيا يتنفس في نفس الوقت؟
كيف؟
10 تعليقات