نادرة هي القصص القصيرة التي كتبتها.. ربما لأنني ثرثار كبير يميل إلى التطويل والطابع الروائي، وهو الشيء الذي لا تتيحه القصص القصيرة التي تحتاج إلى تكثيف بالأسلوب والمعنى..
فقط تبقى هذه القصة من العمال الأثيرة لدي.. الأثيرة جدا!!
——————————————————————–
إن البياض يخنق البصر على مدى الأفق. و الحيرة تسد أنفاق الأفكار..
رداء أخضر طويل يكسو الأرض حتى الأفق، و حملان تحاول أن تطاول بأنوفها السماء..
حيث الحمام يفرد أجنحته أسرابا تطغى ببياضها على زرقة السماء..
ابتسمت ساخرا.. كيف تراقب الحملان الحمام و تهفو إليه و الذئاب بجانبها تتربص حينا، و تطبق على كواحلها أحيانا.. بل و يختفي بعضها بين الفينة و الأخرى تحت غياهب الأنياب و الآخرون لا يزالون مبتسمين للحمام..
أدرت ظهري للمشهد الأزلي الساخر، و رنوت إلى ذلك المبنى المنزوي و حيدا في ركن الشارع وقد دعاني إليه سكونه..
في إحدى الغرف استقرت براءة الربيع غافية بسكينة.. طفل لم يجاوز بعد ربيع عمره الثامن مسحت ملامح براءته سموم ذكرى الذئاب.. تطلعت على جفنيه المسدلين، وتمنيت لو أوقفت الزمن فوق المشهد ما حييت.. لكنني لم أملك سوى مداعبة خديه بأشعة الشمس البكر الوليدة، دافئة متسللة من خصاص النافذة. انكشف سواد العينين الصافي عن بياضهما الناصع، و حملني سحر نقاوتهما أميالا جاوزت كل كرب الدنيا وتعاستها…
تدفق الحبر من جديد، فاخترقت امرأة جزعى الغرفة. و لم تمهل الصغير فرصة الاحتجاج أو الصراخ، بل اختطفته من فراشه و هي تثبت خمارها فوق خصلات شعرها المتناثرة. انفتحت البوابة بعنف مزق صفحة الهدوء الذي لف المكان منذ لحظات.. و فتح الصبي عينيه الناعستين على أجساد ضخمة ببذلها الخضراء و أسلحتها السوداء، و صوت أحدهم يجلجل في أذنيه..
كان هناك الكثير من الصراخ و العويل من طرف المرأة، لكن الجندي لم يمهلها، و رمى بها و بحملها خارج البيت وسط دموع أغرقت وجنتيها و قلبها معا..
لم يفهم الصبي قط.. قالت له أمه ذات يوم أنهم يستولون على الأراضي.. أنهم يهتكون الأعراض.. أنهم يسلبون البيوت. و لم يفهم حينها ما تعنيه.. فهل هؤلاء يدخلون في نطاق “هم” تلك؟
التقطت مقلتاه فجأة مشهد الآلة الضخمة التي بدت كوحش أسطوري، و شدت انتباهه حركة تلك الكرة الحديدية العملاقة المعلقة في مقدمتها بسلسلة فولاذية ضخمة.
ثم هزت الصفعة كيانه.. كانت أول مرة يشاهد أمه تصفع… تطلع إلى الخمار المتطاير حتى استقر أرضا، فاتجه نحوه و هو يمشي الهوينى و نحيب والدته يخترق أذنيه كآلاف القنابل التي تنفجر في ذهنه العاجز عن الفهم.
كم يفتقد أباه الآن و هو يتذكر ذلك اليوم الذي عانقه فيه بحرارة غير عادية.. و خرج و لم يعد بعدها.. أمه تقول أنه استشهد… و كلنه لم يستوعب المعنى قط. كل ما اكتشفه مع الوقت هو أن أباه لم يعد معهما، و اختفى إلى الأبد.
حمل الخمار، و دثر به شعر أمه المكشوف..
اتكأت على نصف جدار مهدم و أنا أراقب المشهد من بعيد.. و كانت الحملان قد انتبهت للمشهد بدورها.. فأطلقت ثغاء استنكار و شجب قوبل بابتسامة ذئبية واضحة الأنياب..
ابتسمت متهكما بدوري، و غضضت البصر و السمع عنها كما فعل الجنود.. وواصلت أرجحة القلم للتتواصل أرجحة الكرة الفولاذية استعدادا لتحيل البيت إلى أنقاض..
حملق الطفل فيها لوهلة.. حملق في الجنود المقيتين.. رمق الحجارة المتناثرة.. والبقية خلاصة فقدان كرامة..
عين تنزف دما أسود.. ثور هائج ذو خوار يطارد طفلا صغيرا.. يمسكه من تلابيبه و يرفعه عاليا، و يحمل خنجره ..
تشد صرخات زملائه انتباهه و دهشته.. ثم يكتشف مصيره مع صرخات الأم الملتاعة، ومع صوت الكرة الفولاذية التي وقف في مسارها عن غفلة منه.. الكتلة المدمرة على بعد سنتيمترات من الثور و الطفل في يده، و… وكف قلمي عن الكتابة ليتجمد المشهد..
تحركت في الساحة و حيدا.. و حتى الحملان كفت عن ضجيجها المستنكر كالعادة.. حملت ملامح الأم كل خلجات الفزع و اليأس.. و حملت ملامح الجنود رهبة لا تدانيها رهبة.. و انقلبت سحنة الثور لتناسب طابعه.. أشبعت رغبة التشفي الكاملة في ملامحه المرعوبة لهنيهة، ثم شدتني ملامح البراءة من جديد.. براءة لا تدري مصيرها المحتوم..
أطلقت زفرة حيرى.. هل يجوز لدماء الطهر الاختلاط بدماء الفساد؟
من المعهود في مثل هذه المواقف أن يقفز بطل ما من مكان ما لينقذ الموقف في آخر لحظة.. لكنني لم أكن من هواة الخيال العلمي للأسف.. شعرت بحرارة الأفكار تلهب ثنايا دماغي.. و صارعت الأنفاس المحمومة لتغادر سجنها الصدري. فرميت بالقلم في الهواء، و أعملت رأسي تحت صنبور المياه الباردة عساه يطفئ نار غضب مستعر.
تطلعت للقلم المتحدي من جديد.. استشعرت سخريته و هو مرمي أرضا.. إنه يهزأ من ضعفي.. و بياض الورقة يسخر من نفسه.. فحملت القلم بأصابع مرتجفة من جديد، وكتبت عبارة: تمت بحمد الله
بسم الله الرحمان الرحيم..
لا أعلم ماهية ذلك الشعور الذي اكتسحني و عيناي تمران على آخر عبارة بقصتك.. ربما رغبة بالبكاء.. لا.. بل رغبة بالذهاب إلى ذلك المكان لأسند ظهري على جدار مهدم و أرقب بأنفاس مكتومة ذلك المشهد الأسطوري.. أعرف أني لن أفعل شيئا.. فأنا لست من الأبطال بالتأكيد.. و لكنني لا أدري لماذا أصر على أن وجودي هناك سيغير شيئا ما بالمشهد ؟؟..
يبدو أنني جننت أخيرا !.. و لكن صدقني على الأقل إن قلت أن قصتك رائعة.. بها شيء جديد لا أعلم كنهه بالضبط.. فأنت لم تكتب القصة فحسب !.. بل كتبت نفسك و أنت تكتب القصة !.. و هذا ما جعلني أتحسس الإبداع في ثنايا قصتك.. نعم، هذا هو الإبداع.. و ليس محاولاتي الخرقاء تلك و التي أشعر بالغثيان بعد قراءتها.. نعم يا أخي.. أعشق أن أقول الحق.. و في قوله فليذهب كبريائي و شموخي للجحيم..
عزيزي رفعت..
لو كنت احتفظت بأول محاولات ادبية لي لكنت اعطيتك إيها كي تقرأها وتدمع عيناك ضحكا لهزالة مستواها!
لا احد يصل قمة افبداع.. كلما تمر فترة تعود بعدها لقراءة ما كنت تكتبه فأنت تشعر بالسخف دوما.. متى كففت عن ذلك، كففت عن الإبداع الحقيقي!
شكرا لك مجددا!