تجاوز المحتوى

الشهر: يناير 2006

جولة سياحية معتبرة(1)

سابقا في مذكرات طالب بالأقسام التحضيرية:
مذكرات طالب باﻷقسام التحضيرية
مسار الأف ميل:خطوة البداية (1)
مسار الألف ميل: خطوة البداية (2)

منذ قرون وأنا أتمنى أن أبدأ يوما بكتابة يومياتي..
لست هتلر.. ولست طه حسين.. ولست شعبان عبد الرحيم.. لذا لا أجد تدوين يومياتي سيعود بفائدة أكثر من أن أستطيع تقديم إحصائية دقيقة عن عدد المرات التي نسيت فيها غسل أسناني، أو عدد حالات الإسهال وعسر الهضم التي أصبت بها عبر سنوات حياتي.. وهذه معلومات لن تهم سواي ووزارة الصحة على أبعد تقدير..
أنا فقط أجد أن بعض الذكريات التي تستحق أن لا تنسى تبدأ بالذوبان بهدوء وراء خلفية تسارع الأحداث المستقبلية..
أعاني الآن لاعتصار ذكريات السنتين اللتين قضيتهما بمركز الأقسام التحضيرية بأكادير.. و يبدو أنني سأبدأ عما قريب بالاستعانة بالذاكرة الجماعية..

سنقوم الآن بجولة بالمركز.. ستكونون سياحا مزيفين، و سأكون دليلا أكثر زيفا.. هكذا لا مجال لأن يتابعني أحدهم قضائيا..
علي من الآن أن أبدأ باستعمال أسماء مستعارة لبعض من سيرد ذكرهم خلال هذه المذكرات.. هكذا أتفادى أن يشج أحدهم رأسي في أول فرصة..
فلنبدأ الجولة أعزائي من مدخل الداخلية..
لا داعي للقلق من ذلك المخلوق الكلبي الذي يقبع هناك.. لقد سبق وحدثتكم عنه.. سنمر بجانبه بكل هدوء، وسيقوم هو بدوره بالنباح على سبيل تأدية الواجب، وذلك كي يعطيهم سببا كافيا للإبقاء عليه بالمركز..
هذا المخلوق يروقني.. ذات مرة طارد قطيعا من الأغنام يمر بالجوار البوابة دون أن تعيره أية شاة أدنى اهتماما.. إنه عديم الشخصية بالفعل، رغم أنه مغرم بأفلام الويسترن الأمريكية على ما يبدو..
أول مبنى على اليسار هو غرفة (الحسن).. و (الحسن) هذا هو سدادة ثقوب المركز.. هو في الأصل حارس البوابة، لكنه يمضي أوقات فراغه بشكل إجباري في غسل أواني المطعم وكنس ومسح أروقة العنابر، وممارسة جميع انشطة التجسس والمراقبة على الطلبة والموظفين على حد السواء..
إن (الحسن) رجل مستحيل المركز بامتياز.. وفي الليل أو العطل لا مانع من أن يشارك الأخوة السياح في ممارسة الفساد المحلي.. والغرفة الصغيرة بجانب البوابة تفي بالغرض.
غضوا الطرف عن المبنى المجاور على اليمين، حيث كتبت عبارة “المصالح الاقتصادية”.. دعوني صامتا فقد أقبل أي اسم عدا المصالح.. ما رأيكم بالمفاسد أو الفضائح؟
دعونا أيضا نتجاوز هذه السلالم اللولبية التي لم يفهم المسئولون أهميتها في الحياة، فأقفلوا الأبواب المؤدية إليها..
نمر الآن بجوار مكتب من غرفة واحدة وردهة تفضي إليه، حيث كتب بخط عريض: “مصحة”..
هذا هو مكتب الحارس العام للداخلية (رمزه الكودي بعبول)، ولا داعي لأن تسألوني عن العلاقة.. فمن البديهي أن (بعبول) يمارس النشاطين.. وعلى العموم يعد نشاط المصحة بسيطا ثانويا لا يثقل كاهله، فهو يتلخص في تقديم قرص سحري يسمى (فوٌار).. لا وجود لاسم تجاري عملي على غرار (باراسيتامول) أو (أسبيجك).. فقط كلمة (فوار) تستفزك فوق الغلاف اللامع للقرص..
كيفما كان مرضك، ففي فوار علاجك.. لدرجة أن بعض الفتيات قرروا استخدامه بدل حبوب منع الحمل، لكنه فشل في هذه النقطة.. وسأتحدث عن التفاصيل فيما بعد..
وبما أن هذا عصر التجاوز، فسنتجاوز المطعم والخزانة والنادي إلى أن نعود إليهم لاحقا.. سنتجه مباشرة إلى العنابر كي نمدد أجسادنا قليلا..
أنا أقطن بالطابق الأول لحسن حظكم، لذا لن تتعبوا للوصول إلى الطابق الثالث.. ما بكم تنظرون إلي بهذه الطريقة؟ لقد نشأت في بلدة صغيرة تعد فيها المباني ذات الطابقين ناطحات سحاب!!
لا داعي لإطالة الوقوف في الردهة المقابلة لبوابة الطابق، فمفعول صواريخ الهواء هناك قاتل..
إليكم خارطة الطابق: 犀利士
a9-%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%ad%d9%8a%d8%a9-%d9%85%d8%b9%d8%aa%d8%a8%d8%b1%d8%a9/mara7id” rel=”attachment wp-att-847″>mara7id
نصيحة أخوية صادقة: اقطعوا أنفاسكم على طول الرواق الرئيسي الذي يمر بالمراحيض.. إنها تنظف مرة كل أسبوع تقريبا، وهذا كاف لجعلها منطقة تلوث إشعاعي، خصوصا مع الشباب الواعي المثقف الذي يمارس رياضة التبول عن بعد، والتي تتلخص في محاولة التصويب على ثقب المرحاض وأنت واقف على بعد متر من الباب..
ها قد دخلتم جناح (تيزنيت)، وها أنتم الآن أمام باب الغرفة.. سنحاول فتحها بهدوء لأن المقبض بدأ بالتشقق رغم أننا اشتريناه للتو.. لا أنا ولا (عبد الله) نملك أصابع هرقلية لو كنت تفكرون بذلك.. فقط هذا مثال عملي حي عن المثل الشعبي الذي يقول: “عند رخصو تخلي نصو”..
تفضلوا بالدخول!….

تابع القراءة: جولة سياحية معتبرة(2)

 

12 تعليق

الأريحية التحضرية في زمن العولمة الغربية..

العولمة..
في التلفاز.. في المذياع.. في الجرائد والصحف.. على الإنترنت.. على المقاهي.. في الحمامات ودورات المياه.. أصبح الأمر لا يطاق حقٌاً!!

لا أحد يعرف المعنى المحدد للكلمة، والكل يلوكها في حديثه في نفس الوقت!!
أنا سأقول لكم معنى العولمة.. انسوا السياسية.. انسوا الاقتصاد.. انسوا العبارات الرنانة من طراز الاجتياح الاقتصادي.. انسوا المقررات الجافة وتعريفات من طراز القرية الصغيرة التي لن يكون العرب فيها سوى النعاج ومن سواهم الرعاة أو الذئاب في أفضل الأحوال.. انسوا كل هذا.. العولمة هي كل شيء غير طبيعي يحدث حولنا!!

العولمة هي أن تدخل بيتك في منتصف الليل لتكتشف أنك أول الواصلين، وأن زوجتك لا تزال في عشاء عمل.. العولمة هي أن تحتاج لمرشح لقطات كي تستطيع مشاهدة التلفاز مع أسرتك بسلام.. العولمة هي أن توصل ابنتك إلى حفلة راقصة في التاسعة ليلا، وترجوها أن تعود إلى البيت قبل الواحدة حفاظا على سمعتك في البلد..

العولمة هي أن يكون الكلب الساخن هو وجبتك المفضلة مقدمة إليك من محلات (الأسطى) ماكدونالد.. والكلب الساخن هنا، لمن لم يتشرف بمعرفته بعد، هو ما يصطلح على تسميته بـ(الهوت دوغ).. هذه هي ثقافة التحضر الحق حسب آخر المعايير العالمية الأمريكية.. والدولة التي تعترض وتحاول الحد من هذه المظاهر ما هي إلا دولة متخلفة لا تستحق أن تعيش في عصر التحضر..

فلنترك كل هذا ولنلق نظرة على نافذة الشريحة الأكثر تأثرا بثقافة العصر.. دعونا ندخل أول مدرسة ثانوية تقابلنا.. أدر عينيك يمنة ويسرى! لقد تم فرض نظام اللباس الموحد منذ فترة قريبة لمحاولة الحد من مظاهر الفروق الطبقية.. هذا صحيح ويدل على بعد نظر كبير.. ففتياتنا يا سادة لا يجدن الدعم المادي الكافي ليسترن أجسادهن شبه العارية.. يبدو أن أزمة الأثواب قد وصلت إلى حد مستفحل حقا حتى مست أغنى الأغنياء في البلد.. فبعد أن كانت الفتيات يلبسن (الماكسي جيب).. ضاق الحال بهن فاضطررن إلى ارتداء (الميني جيب).. و حينما استفحلت الأزمة بشدة لم يجدن بدا من ارتداء (المايكرو جيب) وذلك حفاظا على ثروة الأثواب من الاستنزاف.. وأمام هذه الحال المزرية اضطرت الدولة إلى فرض اللباس الموحد في محاولة لكي لا تصل الظاهرة إلى مرحلة (اللا جيب)، و هي ظاهرة غير محببة إلى النفس خصوصا في بلد (((مسلم))) كبلدنا..

ولكن الضمير الحي لفتياتنا لم يترك الأمر يمشي على ما يرام، فقد أخذت الغالبية العظمى منهن لباسها إلى الخياطين، وطلبن منهم أن يختصروا ما استطاعوا وباقي الثوب حلال عليهم.. لذا فقد عمل الخياطون بكل حماسة طبعا وعادت (الميني جيبات) إلى الميدان من جديد..

والظاهرة غير الطبيعية التي عشتها بنفسي ولا زلت لحد الآن لا أصدقها هي أنه في إطار حملة الدولة للحد من مرض الإيدز، قامت بدورات توعية على مستوى المدارس الثانوية، وفي نهاية العروض كانت هناك حملات خيرية لتوزيع العوازل الطبية على المراهقين مجانا.. وهذا مجهود يشكرون عليه وسياسية فذة قد أثبتت نجاحها في الحد من نسبة المراهقين المصابين بالمرض، ونجاعتها في الرفع من نسب الفساد في آن واحد.. ومن دواعي السخرية أن نتحدث الآن عن شيء اسمه شرطة محاربة الفساد.. يبدو أن الشرطة من الآن فصاعدا ستدخل إلى بيوت الفساد، وتلقي القبض على كل المجرمين الذين لا يضعون عوازل طبية ويتركون المواطنين الشرفاء الواعين يمارسون حقهم المشروع في الحياة ما داموا يضعون العوازل.

من نوافذ الحياة سترى العجب!!
فعلى ماذا ستطل النافذة القادمة يا ترى؟
من يدري؟

5 تعليقات

شبكة مدونات مدارات

يبدو أنه قد حان الوقت لاتنازل قليلا وأقدم مجموعة الروابط الخاصة بمدونات شبكة مدارات..
منذ قرون والمحررون يتوسلون إلي، وخصوصا رئيس التحرير الهمام (على رأي داليا يونس )، وأخيرا استجبت لطلبهم بعد ان وقعوا على وصلات امانة وشيكات وطلبات ممهورة بتواقيع 125 موظفلا لاتقل مرتباتهم عن ثلاثة وعشرين قرشا وأربعة سنتيمات..

ماذا لدينا:

قصاص وكاتب صحفي مصري..مواليد القاهرة يناير 1948. عضو نقابة الصحفيين واتحاد كتاب مصر. حاصل على الدكتوراه في الأدب الروسي من جامعة موسكو عام 1992. عمل في الصحافة منذ عام 1964. عمل مراسلا لإذاعة (أبو ظبي) من موسكو خلال فترة الدراسة من 1989 حتى يناير 1998، ومراسلا لمجلات مصرية وعربية عديدة، ثم مراسلا لجريدة الاتحاد الإماراتية من 1991 حتى يناير 1998. متفرغ للعمل الصحفي. يكتب بانتظام عمودا أسبوعيا في جريدة أخبار الأدب المصرية، ويكتب لغيرها من المجلات العربية. مراسل مجلة الآداب البيروتية في القاهرة.

باختصار شديد: محترف المجموعة الذي نتشرف بأن نكون بجانبه في مكان واحد..

——————————————————
ثم نبدأ بالبيغ بوص، رأس الحربة، القاص والصحفي المغربي الشاب الذي لن يكف عن إبهاري يوما بكم المشاريع الخرافي الذي يخطط له.. يتمتع بأسلوب أدبي متمكن، وقد أنتج مجموعة قصصة مشتركة مع القاص عبد الواحد استيتو.. وهو يحضر لنشر المجموعة الثانية..

—————————————————–

مشروع فنان قدير، هو كذلك أصلا منذ الآن، يحملك معه عبر تصميماته وكاريكاتيراته إلى عوالم أخرى لم تكن تتوقعها.. تنظر لأعماله فتقول: تبا! أي حس فني يملكه هذا الشاب..
كاتب جيد يجيد فن الحديث عن الحياة.. يملك نظرة ثاقبة على مشاكل المجتمع، ويتمتع بأسلوب سلس بعيد عن البهرجة اللغوية المعهودة..

——————————————————

كريستوف كولومب المجموعة 😀

مغرمة بالتاريخ وبمسح الغبار المتراكم وراء أحداث قديمة، كي تستنبط لك ببراعة تحسد عليها تأثيرات ذلك على واقعنا وزمننا الحاضر..

الخلاصة: لو كنت تكره التاريخ فادخل الوصلة كي تحبه..

—————————————————–

قاصة موهوبة أخرى، موهوبة إلى حد لايطاق.. لست ادري لماذا كنت أقرأ لها القصص المشتركة فقط، الآن اتيحت لي الفرصة لمتابعة إبداعها كله لحظة بلحظة.. ومن الواضح أنها وضعت كل ما لديها في المدونة دفعة واحدة .. لا احد يطاردك يابنيتي، فخذي حساب أيام القحط الإبداعي وادخري..
لمن يريد ان يكتشف موهبة أدبية بديع نوه بها الروائي الشهير الدكتور أحمد خالد توفيق في محافل شتى.. إليكم الوصلة:

—————————————————

هذا ما لدينا لحد الآن، وجاري التحضير لمدونات أخرى من شبكة مدارات نعلن عنها حال بدء النشاط بها..

7 تعليقات

لم أعد أجد العنوان

وسط حملة تنظيف الغبار وجدت شيئا ما.. ربما أمكننا بشيء من العسر تسمتيه قصة قصيرة..
هذه فقط عينة من النوع الذي كنت أكتبه من القصص القصيرة قبل خمس سنوات حين كنت أبحث عن النهايات الغريبة..
الآن.. وبعد كل ما رأيت وقرأت، بدأت اكتشف أن نهاياتي حينها لم تكن مبتكرة للغاية كما كنت أظن 🙂

—————————————————————————————————————

تيت!! تيت!! تيييييييييييييييييييييت!!!
***
تضغط القدم على الدواسة.. تئن العجلات من شدة احتكاكها بالأرض.. و تنطلق..
عشرات السيارات تحوم حواليك مواكبة سرعتك..

***
خمسون كيلومترا في الساعة..

***
كل شيء على ما يرام..
تراقب الآخرين بعين خبيرة و ثقتك تزداد بازدياد السرعة..

***
تسعون كيلومترا في الساعة..

***

تنفسك طبيعي.. أعصابك باردة.. و تحكمك حديدي..
السيارات من حولك تبدأ بالتراجع..
إن محركك قوي بالفعل..

***
مائة و خمسون كيلومترا في الساعة..

***

تبدأ مشاعرك في التجرد مما حولها..
المسار.. السيارات.. المسار.. السيارات..
المرتبة الأولى..
الكأس..
لا شيء يهم بعدها..

***
مائتا كيلومتر في الساعة..

***

السرعة المشؤومة تقترب..
أنفاسك تتلاحق..
دقات قلبك تتسارع..
اضبط نفسك..
المسار.. السيارات.. المسار .. السيارات..
لا شيء بعد ذلك..

***
مائتان و أربعون كيلومترا في الساعة..

***

هذل هذه أصابعك التي ترتعد؟ أم أنه اهتزاز المقود الطبيعي؟
لو اهتزت المقود إذن فلماذا ترتجف شفتاك؟
ستظهر الآن..
أنت متأكد من ذلك..
إنها تفعل ذلك دوما..

***

مئاتان و سبعون كيلومترا في الساعة..

***

ها هي ذي أمامك تبدو من بعيد..
تحدق بك بعينين فيروزيتين كالزجاج..
لا بد و أنك ستصدمها حتما بهذه السرعة..
تضغط الفرامل بحركات متتالية سريعة كي لا تنقلب بك السيارة..
تهتز مشاعرك و تدمع عينيك و أنت تتصور الجثة تطير ممزقة كالعادة..
ذلك المشهد الذي طالما مزق هناء حياتك..

***
المسار.. السيارات.. الفتاة..السيارات.. المسار.. الفتاة..

***

لقد توقفت السيارة أخيرا..
ربما أسرع من اللازم بالنسبة لسيارة تسير بتلك السرعة..
لقد اختفت ذات العينين الزجاجتين..
لكنك متأكد من أنك لم تصدمها..
ثم انطلقت صيحة الظفر من حلقك..
تطلعت بابتسامة تهكمية إلى العداد الذي ألصقت به ترقيما خرافيا جديدا..
أزلت اللصقة ليظهر من خلفها العداد الحقيقي و الذي لا تتجاوز سرعته مائة كيلومتر في الساعة..
تنزل من سيارتك العتيقة و أنت سعيد بأدائك الرائع هذه المرة..
أجل.. أنت تصلح لذلك الدور بالتأكيد..
هذا ما ستثبته لهم في ساحة التصوير بعد طول غياب..
غياب نجم..

3 تعليقات

ترررن ترررن.. تربن تربن.. (على رأي سعيد صالح)

تعرفون قصة نيوتن مع التفاحة بالتأكيد.. لابد و أن الجميع سمع عن هذه القصة الظريفة التي يكون فيها نيوتن مستلقيا تحت الشجرة فتسقط على رأسه تفاحة منها، ليصبح هذا الحدث الجلل من أهم الأسباب اكتشاف الجاذبية..
لا يمكنني أن أتصور وضع العالم قبل أن تكتشف هذه الأخيرة.. ربما كان الجميع يربطون أنفسهم بحبال إلى الأرض قبل ذلك كي لا يحلقوا في الفضاء.. أو ربما كانوا ينتعلون أحذية حديدية تزن مئات الكيلوغرامات.. لا أحد يعلم بالتحديد..
و لكن دعونا من كل هذا، فسأحدثكم عن قصة أخرى..
تسمعون بالتأكيد عن قصة مخترع الهاتف.. يقولون أن الرجل كان مستلقيا تحت شجرة بدوره في أحد الأيام الخريفية الرائعة، فإذا بهاتف يسقط فوق رأسه من الشجرة.. حادث طريف آخر كان الرجل بعده بحاجة إلى خياطة عاجلة لجرح رأسه قبل أن يتمكن من معاودة التفكير من جديد.. و أدت هذه الحادثة إلى إلهام كبير له كان السبب الأكبر في اختراع هذا الجهاز الفذ المسمى هاتفا..
و لكن الهاتف لم يلبث أن تطور، و تقدمت تقنيته.. وبعد فترة أصبحت حاجة ملحة إلى اكتشاف جديد يسهل الاتصال في أي وقت و أي مكان.. و أظن أنكم قد فهمتم النظام الآن. لذا لن أقول إن أحدهم كان نائما تحت شجرة فسقط عليه هاتف نقال مما أدى إلى اختراع هذا الأخير، فهذه الأشياء قد أصبحت بديهية الآن.
أصبح الهاتف النقال الآن شيئا عاديا في مجتمعنا.. و بعدما كان قبل سنوات معدودة عبارة عن وحش خرافي من الوحوش الالكترونية لأفلام الخيال العلمي، أصبح الآن امتلاكه متاحا لجميع الفئات: من رجل الأعمال الثري إلى رجل يبحث عن هذه الأعمال.. و من صاحب سوبر ماركت يبيع كل شيء من الإبرة للصاروخ، إلى صاحب دكان صغير يبيع كل شيء من رغيف الخبز إلى رغيف الخبز.. يمكنك الآن أن تشاهده في يد شيخ عجوز مصاب بالشلل الرعاش، كما يمكنك أن تجده في يد (مفعوص) صغير لا يزال يحاول أن يمشي لوحده دون أن يهشم رأسه..
و ما يثير الدهشة حقا هو هذا التطور المدهش في حجم و كفاءة هذه الأجهزة.. لا زلت أذكر هاتفي النقال القديم الذي يملك محبة خاصة إلى نفسي و الذي لا زلت أحتفظ به في درج مكتبي كما يحتفظ عالم الآثار بتحفة أثيرة. صحيح أنه أشبه بثلاجة منه بهاتف، كما أن أحد الأصدقاء يصر على تسميته ب” إبراهيم يرفع إصبعه ” ، إلا أن هذا لا يمنع أن له فوائد جمة تختلف تماما عما صنع لأجله.. ففي أوقات الشدة يتحول بقدرة قادر إلى سلاح أبيض قادر على شج أعتا الرؤوس وأكثرها صلابة.
أما أشنع تحول عرفه عالم الهواتف النقالة هو تطور الأحاديث المتبادلة. فبعد أن كان الجهاز يعتمد محادثات مثل:
– مرحبا..
– سيد (…) هناك اجتماع عاجل في الإدارة.. لذا نرجوا التحاقك بنا في أسرع وقت لو سمحت..
– حسنا.. أنا في طريقي إليكم.
أصبح الآن ينقل محادثات مثل:
– ألو!! (المقدمة المعتادة)
– آلو!!” (الجواب الروتيني)
– أنا حليمة يا مختار (كي لا يظن الزوج أنها خديجة زوجته الثانية في السر.. ظننت الأمر واضحا).
– أعرف يا حليمة.. أنا أرى أن رقم هاتف المنزل على شاشة هاتفي.. بالتأكيد لن تكون هيئة الإطفاء هي المتصلة..
– لن أفهم ذلك السحر الذي يعمل به ذلك لهاتف الذي تحمله أبدا..
– هذا أفضل..
– ماذاااااااا!!! (باستنكار)
– ماذا تريدين يا حليمة..؟
– هل تحب (الكرعين) بالحمص أم بدون حمص؟
– هل هذا سبب اتصالك الآن يا حليمة؟ (بسخط)
– أجل (بوداعة)
– إذن فلتكن (كرعين) بالفول السوداني..
– ماذا قلت؟!!!!!!
“لا يمكنكم الاتصال بمخاطبكم لأنه خارج نطاق التغطية…”

و هناك أمثلة أشنع لا يتسع الوقت و الخاطر لذكرها الآن..

ماذا لو تحدثنا قليلا عن تلك المسابقات الهاتفية الفظيعة التي تقوم بها جميع القنوات التليفزيونية لأجل عيون المواطنين. أعترف أنني كنت مغفلا كبيرا حينما بدا لي الجواب تافها في أحد مسابقات الفوازير، فقررت أن أشارك. اتصلت بالرقم المشئوم و الذي يكون دوما تذكره أسهل من تذكر اسمك ذات نفسه. و بعد لحظات انتظار قصيرة أتاني صوت رقيق لفتاة ترحب بي في برنامج الفوازير. كنت أتوقع أن يكون الصوت الذي يجيبني معدنيا كما يحدث في أي فيلم خيال علمي يحترم نفسه. إلا أنني تذكرت أن أحدهم أخبرني يوما أن الصوت يكون مبرمجا ليرد آليا على المتحدثين، و هو كلام لم أفهمه صراحة لأنني لم أكن يوما ممن يهتمون بالتكنولوجيا.
كنت أتجنب الاندماج مع صاحبة الصوت في محادثات جانبية غير ذات معنى، فلم أرد عليها التحية كي لا ندخل في مسألة التعارف و السؤال عن الحال و الأحوال و عن العائلة المحترمة و صحة الوالد و الجدة، و ربما ينقلب النقاش إلى سمر سياسي أو اقتصادي، أو أي شيء مبهج آخر تحاول الفتاة أن تسوقني إلى الحديث فيه كي أدفع تكلفة أكبر.. أنتم تعرفون أن الأذكياء مثلي لا يقعون في هذه المقالب الساذجة..
و لقد كانت طريقة تحديد الجواب سهلة جدا، فقد قالت الفتاة:
– مرحبا
صمت قصير كنوع من الإثارة و الترقب.. ثم:
– أنت معنا في مسابقة فوازير رمضان..
صمت قصير آخر..
صمت من فئة درهمين و نصف.. ثم:
– إذا كان اختيارك هو الجواب الأول، فعليك ضغط الزر رقم سبعة.. و إذا كان اختيارك هو الجواب الثاني، فعليك ضغط الزر رقم خمسة.. و إذا كان جوابك هو الجواب الثالث، فعليك أن تضغط الزر رقم عشرة (مهمتك أن تبحث عنه)..
المهم أنني لم أضغط أي زر بعد المكالمة، بل اكتفيت بارتفاع ضغط دمي، و بإصابتي بالفالج و بعض مقدمات الاكتئاب الانفصالي..

في الحقيقة، هناك الكثير مما يقال في هذا الموضوع، و لكن هذا يكفي الآن. علي أن أرحمكم قليلا على ما يبدو..

4 تعليقات

مسار الألف ميل: خطوة البداية (2)

سابقا في مذكرات طالب بالأقسام التحضيرية:
مقدمة مملة لابد منها
مسار الأف ميل:خطوة البداية (1)

-” إلى اللقاء..”
قلتها و أنا أخرج حقائبي عند البوابة الخلفية للمركز حيث مدخل الداخلية..
تطلعوا إلي جميعا في استنكار قبل أن تقول والدتي:
-” أتينا إلى هنا جميعا، ونتركك قبل حتى أن تتم إجراءات التسجيل وتستقر؟”
آخ.. هذا ما كنت أخشاه.. الشاب الوحيد الذي رافقه أهله كأي طفل صغير كي يطمئنوا عليه في مكمنه الجديد.. أيٌ فضيحة أكبر من هذه في اليوم الأول بالمكان؟
أعدت الحقائب إلى الحقيبة الخلفية للسيارة، وركبت من جديد قائلا:
-“في هذه الحالة، فلندخل بالسيارة إلى الداخل كي نقترب أكثر!”
لم يكذب أبي خبرا، فأعاد إدارة المحرك قائلا:
-“حسنا.. أتعشم أن يكون دخول السيارة إلى المكان مسموحا!”
أغمضت عيني ونحن نجتاز البوابة وأنا موقن أن الفضيحة وشيكة.. وحينما فتحتهما فوجئت بمجموعة من السيارات من مختلف الأنواع والأحجام متناثرة هنا وهناك.. و الأهم من ذلك، مجموعات بشرية من مختلف الأعمار والأشكال..
تنفست الصعداء أخيرا، فلست الشاذ الوحيد هنا.. بل إن السواد الأعظم من المرافَقين هنا يبدون في حالة قاتلة من الرضا عن النفس وعن الآخرين، وهم في غاية السرور كأنهم يدخلون جنة الله في الأرض..
اقترب منا شيء ما يمكننا بشيء غير يسير من التجاوز أن نصطلح على تسميته كلبا.. تطلعت إليه، وابتسمت مرغما.. ثم لم أتمالك نفسي وقد عاودتني نوبة السماجة المألوفة، فأشرت بيدي بحركة شيكسبيرية نحو المخلوق قائلا بأكبر قدر ممكن من الفخامة:
-“أقدم لكم اللورد الكابتن كلب الأقسام التحضيرية المدرٌب!”..
طبعا كان لابد من اعتراض من أمي باعتبار أن أحدهم قد يسمعني ويظنني أتحدث عنه، و أنه لا يجب علي أن أبدأ بعداوات منذ البداية، وأشياء من هذا القبيل من النوع الذي تجيده كل الأمهات طبعا..
لكن موجة السماجة كانت قد ركبت دماغي بالفعل ولم يعد أحد يستطيع إيقافي:
-“هيه!! أيها الكلب.. يا كلب!”
نظرت إليهم عاقدا حاجبي على الشكل العادل إمامي الشهير مضيفا:
-“لماذا لا يغضب؟! العجيب أنني نعته بالكلب ولم يحرك ساكنا! أليست لديه كرامة؟ إن كلاب (أكادير) لغريبو الأطوار بالفعل!”
في هذه اللحظة وصل زملائي القدامى من المرحلة الثانوية لينقذوا أفراد أسرتي من الإصابة بالفالج..
دعونا نتجاوز مرحلة إجراءات التسجيل المملة فملامحها تتكرر في كل زمان ومكان.. فلا بد من الطوابير الملتوية كالثعابين.. ولبد من موظفين متكدري المزاج دوما.. ولابد من أن تحتاج بضعة سنتيمات حقيرة كي تدفع ثمن الدمغات، وأنت كالعادة لا تملك سوى ورقات مالية من النوع السمين.. باختصار: الروتين المعتاد..

إن رفيق غرفتي القادم يسمى عبد الله، وهو صديق قديم بالفعل، لكنني لم أجرب قط أن أعاشره المسكن.. الحقيقة أنني لم أجرب قط أن أعاشر أيا كان سوى أسرتي، فلا داعي للحذلقة إذن..

رافقنا (((معلم))) الداخلية إلى غرفتنا.. ولفظة معلم هنا بين ست أقواس لأنني غير مقتنع بها، و إنما هي محاولة ترجمة حرفية لكلمة (maître) الفرنسية.. إنه ببساطة طالب بكلية أو معهد ما، وهو يقطن بداخلية المركز مقابل القيام بمجموعة من مهام المراقبة والضبط نظير أجر هزيل..

كان من المؤكد أن نجد أن شيئا ما ليس على ما يرام، خصوصا قد اجتمعت قوى النحس الخرافية خاصتي بالتي تخص عبد الله في مزيج غير مسبوق: كانت كل الغرف المجاورة سليمة إلا غرفتنا التي لا يمكن أن نسميها كذلك ما دامت لا تتوفر على قفل ما أو أي شيء يسمح لها بأن تغلق.. مجرد حاجز خشبي دون مقبض أو قفل..
التفت إلى (عبد الله) قائلا:
-“سنقطن بالسوق البلدي على ما يبدو”..
وذلك كناية عن انعدام الأمن في ظل البوابة المواربة..
والآن علي أن أعترف.. كان لبقاء أسرتي، حفظها الله لي، إلى هذه اللحظة دور كبير في حل المشكلة بسرعة.. ربع ساعة وكنا قد اشترينا مقبضا وقفلا جديدين، وتمكنا من تركيب كل شيء باستخدام العدة التي يصر أبي على أن ترافقه أينما ذهب بالسيارة.. غير ذلك كنا سنضطر للبحث عن نجار لا أدري كم كان سيقبض كثمن للتنقل، ناهيك عن أننا كنا سنقضي ما يفوق الساعتين قبل أن نشتري المقبض والقفل أصلا..
وكان لابد من أن أسمع تعليقا من طراز:
-” أرأيت؟ و أنت الذي كنت تريد منا أن نرحل بسرعة!”
ثم رحل أفراد الأسرة، بعد كم مهول من النصائح والإرشادات التي لم أعد أذكر منها حرفا بالطبع بمجرد أن غادروا..
وكانت المفاجأة المفرحة هي أنه بمعجزة ما اجتمعنا نحن القادمون الستة من مدينتي في منطقة واحدة، وهي عبارة عن ثلاث غرف متجاورة في رواق واحد خاص..
اقترح أحدهم أن نغلق مدخل الرواق ببوابة، ونعيد هدم وبناء الجدران الداخلية كي نعيد تفصيل الشقة على ذوقنا.. وقد كان محقا.. فقد حصلنا على منطقة خاصة بنا فقط عكس كل القادمين من مدن أخرى..
أمضينا الليلة في السمر طبعا والكل يداري قلقا خفيا من مصير مستقبلي مجهول..
وفي الغد كانت تنتظرنا مفاجأة مذهلة: سقوط برج التجارة العالمي..
لم نشغل أنفسنا بالتفسيرات السياسية أو التكهنات أو التوقعات.. كل ما كان يشغلنا حينها هو أننا لا نملك تلفازا نتابع فيه ما يحصل!!
تبا!!

تابع القراءة: جولة سياحية معتبرة(1)

 

14 تعليق

رجولة مبكرة.. عنوسة متأخرة! (قصة قصيرة ساخرة)

حين يقرر صبي ما في بداية المراهقة أنه قد آن الأوان ليصبح رجلا، فتلك هي الكارثة التي ستحل على رأس أخته الشابة بالتأكيد. معلومة تقنية تأكدت منها تماما بعد أن بدأ ذلك الزغب الطري القصير يكسو شفتي حسن، أخي الصغير، و بدأ صوته يكتسب حشرجة محرك سيارة قديم توطئة ليتحول إلى صوت غوريلا إفريقية كما جرت العادة دوما. لقد أصبحت حياتي فجأة عبارة عن محاولات بائسة للتخلص من الملاحقات البوليسية التي يفرضها علي الوغد الصغير كأنني سر قومي وجب الحفاظ عليه. المشكلة هي أن هذا (المفعوص) يشاهد العديد من الأفلام البوليسية الرخيصة التي لا نفع لها سوى أن تزيد حياتي تعقيدا و تلهمه أكثر تقنيات التجسس سخافة: إن الفتى الذي يلقي بنفسه في أول سيارة أجرة لتتبع أخته التي ركبت سيارة أخرى قبله، ثم يكتشف بعد ذلك أن لا نقود بحوزته يدفع بها ثمن المشوار، لهو في مشكلة حقيقية.. و حينما يأتي به شرطي بقفاه إلى البيت ليسمع أبي كلمات سخيفة عن الفتى الذي لم يربى بعد، والذي سيتكفل السجن بتربيته يوما، ما لم يتم الاهتمام بسلوكياته أكثر، حينها فقط يمكنك أن تفهم حجم المشكلة..

طبعا سيتلقى الشيطان الصغير علقة ساخنة، و هو يحاول أن يقول شيئا عن الفتاة التي لم تلق تربية كافية، و تتجرأ –تصوروا –على ركوب التاكسي وحيدة مع السائق الذي هو بالمصادفة وحش آدمي. إلا أن أذني أبي لم تكن حينها تنصت سوى لبقايا عبارات الشرطي الجارحة عن فشله في تربية ابنه. إن أبي يتحول إلى وحش كاسر في هذه الحالات بالفعل، وقد احتاجت أمي إلى ما هو أكثر من التوسل والتهديد كي توقف عملية إعادة تلوين الجلد التي كان يمارسها على الفتى.

كان عقابا أشد قسوة مما يجب بالفعل. فالصبي كان مشدودا فقط بالحركات السينمائية الدرامية و لم يقدر العواقب فقط. إلا أن هذه الشدة أرضتني نوعا. على الأقل سيشفيه هذا العقاب من مرض الرجولة المبكرة و الخوف الهستيري على شرف العائلة الذي و لابد لفتاة، كما يعتقد، أن تدنسه.

إلا أن المسلسل العربي لم ينته بعد للأسف. ويبدو أن (العلقة) كان لها تأثير المنشطات على نشاطات الفتى. فقد أصبحت أشاهد قفاه في كل مرة ألتفت فيها إلى الخلف في شارع ما. المشكلة انه ينفي ذلك دوما حينما أشكوه في البيت و كأنه يتصور أنني لن أتعرفه لمجرد أنه يلتفت متظاهرا بالمشي في الاتجاه المقابل كلما فاجأته بنظرة خلفية.. إما أن هذا القرد الصغير يظن أنني أضعف بصرا من بقرة حلوب لمجرد أنني أضع نظارات، أو أنه – وهذا هو الأرجح- يتمتع بعبقرية غباء غير محدودة. و هذا ما أكدته لي آخر تجربة لي معه حينما التفتت بسرعة كبيرة لم تسمح له بالاختباء، و ما كان منه إلا أن أغمض عينيه كي لا يراني متصورا أنني لن أراه أيضا.

وفي يوم من الأيام دخل حسن على والدي وهو يحاول أن يرسم على ملامحه خطورة الدنيا والآخرة، وكدت أرى لوزتيه و هو يصرخ أنني عديمة التربية و أنه رآني مع رجل في الحي أبتسم له في حياء. فما كان من أبي إلا أن مارس لعبة قلب السحنة التي يتقنها بشدة. و التفت ناحيتي و الشرر يقدح من عينيه قبل منخريه.. و لما أبديت استنكاري الشديد وأنكرت كل ما قيل التفت إلى الصبي يسأله عن التفاصيل. فأخبره الفتى بأن الحكاية حدثت أمس على السادسة مساء.. حينها كدت أفقد أعصابي وأتحول إلى سفاحة.. ففي الوقت الذي يتحدث عنه كان الشخص الذي يقف معي هو حسن نفسه ببساطة شديدة.. والفضيحة العظمى هي أنه أجاب بعد أن رميت بدفاعي قائلا: ” وماذا في ذلك؟ أو لست رجلا أيضا؟”. يومها تيقنت أن الصبي مجنون تماما وأنه كارثة قومية وجب التخلص منها صونا لمستقبل المجتمع المدني..

لقد طفح الكيل، و لم تعد لدي أعصاب تتحمل.. أصبحت أرى حسن في كل مكان.. حينما أتطلع إلى المزهرية أرى رأسه يبرز من بين الزهور.. حينما أفتح الصنبور أرى مخاطه يسيل بدل الماء، و أرى الصنبور بأكمله قد تحول إلى تشكيل أشبه بأنف القرد خاصته.. حينما يلتفت المحاضر ليكتب شيئا على اللوح أرى المصيبة الصغيرة يمسك بقفا بذلة الدكتور بيد واحدة، ويتدلى إلى الأمام و قدميه مثبتتان على ظهر الرجل بأسلوب طرزاني شهير.. خلاصة الأمر، لقد بدأت أصاب (بحسنوفوبيا) أو جنون اضطهادي انعزالي، أو أي اسم من تلك الأسماء العجيبة التي يغرم بها علماء النفس المخبولين. ولم يكن هناك بد من وضع حل لهذه المعضلة.

كانت الحلول المطروحة من شاكلة الدفع من عل، أو القتل بالسم، أو بمسدس كاتم للصوت والصورة.. وكان الحل الأكثر إغراء و الأقل تكلفة هو خنق أنفاس الفتى بمخدته و هو نائم.. إلا أنني أحجمت عن هذه الأفكار لأسباب أخلاقية واقتصادية واجتماعية لا تخفى على أحد. لكن الفرج أتى أخيرا في شخص ذلك الفتى الخجول الودود، الملقب بالمعلم فتحي، الذي طالما رمقني من بعيد كلما خرجت أو دخلت إلى البيت.. لم يحاول أن يحاول أن يكلمني يوما.. كانت نظراته فقط تقول كل شيء دون أن يحتاج لنطقه. لحسن حظي أنه من عائلة محترمة لا بأس بنفوذها المادي. نفوذ من النوع الذي تشم رائحته في اللحم الطازج الذي تعج به محلات الجزارة التابعة لهم، والمواجهة لبوابة بيتنا. هذا ييسر كل المعوقات للوصول إلى رضا والدي طبعا.. ولحسن حظ الفتى أن الصبي المفعوص لم يلاحظ يوما نظرات الإعجاب تلك، و إلا لكانت زيارة والديه اليوم إلى بيتنا لطلب يدي ستتحول إلى زيارة إلى مستشفى المجانين حيث كان سيضمن إقامة مجانية مريحة لمدة طويلة.

كان يوما عالميا في بيتنا. العريس المنتظر سيحضر اليوم. والخوف كل الخوف من حسن وما يمكن أن يسببه من مشاكل تتنوع بتنوع عدد شعيرات شاربه. لذا فما كان من والدتي إلا أن أعطته بضع دراهم كي يذهب ويحيل حياة صاحب إحدى صالات اللعب إلى جحيم كالعادة. إلا أن الوغد الصغير فاجأنا و هو يطرق الباب متقدما العريس المنتظر وأهله، و على شفتيه أشنع ابتسامة ود يمكن رؤيتها. وكادت والدتي يغمى عليها و هي تتخيل عدد الفضائح التي خرجت من فيه القرد الصغير في الدقائق التي قضاها من أهل العريس. أما والدي فما كان منه إلا أن دعا أهل العريس للدخول وهو يحلف أغلظ الأيمان في سره أنه و لا بد فاتك بالصبي لو سبب أية مشاكل.

و لم يخب ظن الاثنين. فما أن بدأ الحديث حتى سأل أهل العريس عن مصير الخطيب السابق الذي هو بالمصادفة سائق التاكسي الذي أقلني حينما تبعني حسن. فأسرع يهتف أن لا وجود لخطيب سابق و لا سائق تاكسي ولا عربة خيول حتى.. و لكن عدم الاقتناع بدا على محياهم جليا واضحا.. فعقلهم لم يتصور وجود عقلية ابتكار فذة كهذه لدى صبي في مثل عمر حسن. لذا فقد افترضوا سوء النية من البداية و ساءتهم محاولة مداراتنا للحقائق التي لا يستطيع الصغار إخفاءها، و خصوصا أن القرد الصغير أخبرهم بأن والدته لا تريد منه أن يحضر اللقاء، و أعطته نقودا لذلك.. فماذا سيظنون في فتاة كهذه بعد كل هذا؟

و هكذا ترون أن حلم العمر الفتى الودود (سي فتحي) قد طار و طارت معه أحلام الزواج إلى غير رجعة بسبب مفعوص صغير لم يعد كذلك بعد أن حوله أبي إلى خردة تصلح للبيع كقطع غيار آدمية..

آه.. نسيت أن أخبركم شيئا في البداية.. أنا نادية.. فتاة ملفوفة القوام، عمرها أربعون سنة فقط و مثقفة حيث أنها تتم دراستها بالجامعة.. و والله بنت حلال.. و حتى أخي سأرميه من الشباك بمجرد أن يقترب أحدكم من بوابة البيت.. انووا انتم فقط و توكلوا على الله..

14 تعليق

البريء متهم وإن ثبتت براءته!

تتقلد أجهزة المخابرات في العالم أجمع مهام الدفاع عن الوطن ضد المؤامرات الخارجية، كما تصنع لنفسها قاعدة عمل من عملاء وجواسيس تضمن من خلالهم مراقبة المتغيرات الدولية السرية وتجهيز ردود أفعال وسياسة البلد إزاءها.. أما في الدول العربية، فإن عشرة بالمائة من عمل أجهزة المخابرات عمل خارجي، والباقي داخلي..

يمكنك دخول أية جامعة أو كلية عربية، و لو كانت لديك الوسائل الكافية للتحقق، يمكنك أن تكتشف أن نصف الطلبة عبارة عن مخبرين، والنصف الآخر في طور التأهيل ليصبحوا كذلك.. لذا فهناك مراقبون يراقبون عمل المراقبين، وهناك مراقبون يراقبون عمل مراقبي المراقبين، وفي النهاية نجد أن الشعب بأسره يراقب بعضه البعض.. لا زلنا في عصر يخرج فيه طالب متحمس أكثر من اللازم، بعد أن ألقى خطبة سياسية في حلقة طلابية ما، ليجد في انتظاره سيارة أمن مسالمة يعرض عليه ركابها بكل لطف توصيله إلى البيت. ويتغير الوقت الذي تستغرقه (التوصيلة) حسب مستوى حماسة الطالب ودرجة صلابة رأسه.. لكنه في النهاية يعود إلى بيته، لو كان محظوظا، في حالة تجعل التمييز بينه وبين جثة لعب بها طلبة الطب في كلية ما أمرا مستعصيا بالفعل.. لكنك تطمئن إلى أنه لا يزال حيا حينما تسمع صراخه الحماسي: “بالروح.. بالدم.. نفديك يا (…)”.. يمكنك أن تملأ الفراغ بين القوسين بما يناسب.. إن الحلقات الطلابية في ساحات الكليات لنشاط مضر بالصحة حقا!!

لا زلت أذكر فترة كانت فيها التجمعات ممنوعة، وذلك لحكمة أمنية فذة لم يتم ذكرها قط لأنها تندرج تحت بند أمن الدولة.. و الدولة هنا هي كل شيء عدا المواطن. يخيل لي أنه لو دخل أحد رجال الأمن في تلك الفترة إلى حمام عمومي، ووجد الرجال مجتمعين على ساقية المياه بانتظار دورهم لنهرهم وفرقهم بدعوى منع التجمعات.

والظاهرة الغريبة التي استفحلت وخصوصا مع العمليات الإرهابية الأخيرة، هي استغلال الظروف للتخلص من كل المعارضين الذين كانوا يشكلون صداعا مزمنا لرجال الأمن، ووجد هؤلاء فرصة سانحة للتخلص من كل من تسبب في يوم من الأيام بلمس أصبع أحدهم الصغير، ابتداء من الجزار الملتحي الذي خرب بيته بكثرة المصاريف، وانتهاء بأي مواطن يطالب باحترام حقوقه و معاملته بآدمية.. و أصبحت الحكمة الجديدة لرجال الأمن هي: البريء متهم حتى تثبت براءته.

سأحكي لكم قصة حلوة صغيرة كنوع من كسر الروتين: “في إطار مسابقة لتحديد أكثر أجهزة المخابرات والأمن الداخلي كفاءة في العالم، تقدمت الـ(سي آي إيه) والمكتب الخامس و(…) .. يمكنك أن تختار هنا أي جهاز مخابرات عربي يروقك. وكانت المسابقة على الشكل التالي: تم رمي قط ما في إحدى أدغال إفريقيا، وكان المطلوب هو إيجاد القط في أسرع وقت ممكن.. فتمكنت ال(سي آي إيه) من إيجاده في ساعتين.. وتمكن المكتب الخامس من ذلك في يوم كامل.. وانتظر الجميع لأيام دون أن يظهر رجال جهاز المخابرات العربي المتبقي.. وبعد رحلة مضنية للبحث عنهم، ثم إيجادهم في أحد المناطق وأحدهم يمسك بأرنب بري يستجوبه: “هل رأيت القط؟” يومئ الأرنب برأسه أن لا.. فيصرخ الرجل قائلا: “إذن فلتقل (مياو)..”

و هذا بالفعل هو نظام عمل أجهزتنا الأمنية.. إذا لم تجد المذنب الحقيقي، فاشتر لك مذنبا من متجر الشعب..

هذه إذن إطلالة قصيرة من نافذة خفية.. و لنا إطلالات لاحقة..

7 تعليقات

مسار الأف ميل:خطوة البداية (1)

سابقا في مذكرات طالب بالأقسام التحضيرية:
مقدمة مملة لابد منها

تطلعت إلى النافذة الزجاجية.. المشهد شبه الصحراوي.. وتلك الأشجار المعدودة المتناثرة على جوانب الطريق، والتي تسارع بالفرار نحو الخلف كلما طوت السيارة الطريق مخلفة وراءها المدينة صغيرة..
مدينتي.. حيث دفء السرير المألوف يصنع ألف فارق.. حيث أصوات أصدقاء الطفولة والصبى لا تزال تناجيني..حيث كنا نحن.. والآن أصبحوا هم..
متجهين إلى (أكادير)، مدينة الجن والملائكة المغربية، حاولت مستبسلا أن اتحمل أغاني ذلك الشريط الشعبي الذي تصر والدتي على الاستماع إليه كلما سافرنا.. تعرفونه طبعا.. إنه ذلك الشريط الشهير ذو الأغنية الفذة التي تقول كلماتها “وا باغي نتزوج أها.. وحتى تكبر أها.. واباغي نتزوج أها.. وحتى ترجل أها..!!”
أعوذ بالله من الحمق! أيوجد بعد على الأرض من يملك صفاقة كافية ليكتب هذا النوع من الكلمات، ناهيك عن أن يغنيه؟ وحينما أتحدث عن اللحن هنا فهذا تعبير مجازي فقط! تعرفون ذلك النوع من الألحان التي تواكب الإيقاع الشعبي المغربي الأشهر: “واحد- واحد / إثنان- واحد”.. الحقيقة أنه إيقاع يستطيع أن يحرك أطرافك، لو كنت مغاربيا، دون ان تعي ذلك.. لكن ربط كل الألحان به بنفس الطريقة الشنيعة يسبب مللا خرافيا قد يغريك يوما بقطع أذنيك ذاتها كي تكف عن سماعها..
تطلعت بحنق إلى أفراد أسرتي الصغيرة.. أبي و أمي و أختي الصغرى، والخادمة الصغيرة، التي لم تعد كذلك بعد أن أصبحت فردا من الأسرة، والذين يرافقونني جميعا في يومي الأول بمركز الأقسام التحضيرية.. كنت بحاجة إلى سيارة لنقل أمتعتي حقا، ووالدي لوحده كان سيفي بالغرض.. لكن الآخرين أصروا على المجيء معنا بحجة قضاء اليوم بأكادير، وشراء ملابس جديدة للدخول المدرسي لأختي..
فكرت حانقا أنه كان عليهم أن يرسلوا برقيات لأفراد العائلة بالوطن كي نلتقي جميعا هناك بهذه المناسبة السعيدة..
لقد كنت من النوع الإستقلالي الذي يحب أن يعتمد على نفسه، ويكون مسئولا عن كل صغيرة وكبيرة في حياته.. ولكم أكن أدرك حينها أنه سيأتي يوم أصبح فيه مسؤولا عن الدفاع عن حقوق أكثر من أربعمائة طالب بشكل سيجعلني أكره مصطلح المسئولية ذات نفسه (تطالعون التفاصيل لاحقا ب:مذكرات طالب مهندس)..

سرحت بأفكاري بعيدا..
إلى هناك..
مركز الأقسام التحضيرية (رضى السلاوي)..
تقافزت إلى ذهني عبارات من طراز: حصص قد تستمر أربع ساعات متواصلة.. امتحانات كالأساطير.. طلبة لا ينامون قبل الساعة الثالثة صباحا، ويستيقظون قبل السابعة صباحا يوميا.. العديد من حالات الإنهيار العصبي والجسدي.. صوت سرينة الإسعاف مألوف للغاية بالمكان..
أفكار سوداية أخرى من طراز: هل سأتحمل؟ و أنا الذي يجد في النوم بعد منتصف الليل إنجازا يستحق التدوين في موسوعة (جينيز) للأرقام القياسية؟ أنا الذي أعد الدراسة المتواصلة لثلاث ساعات بتركيز عال نوعا من الخيال العلمي؟ أنا الذي أدرس بمعدل عشر دقائق يوميا خارج أيام التحضير للإمتحانات، حيث يصل أقصى معدل إلى أربع ساعات..
ولا بأس ببعض التصورات الكاريكاتيرية من قبيل أسد وديع، كتب فوقه مركز الأقسام التحضيرية، يتسلى بلعق قصبة ساقي على سبيل فتح الشهية.. هكذا تكتمل الصورة القاتمة..
يبدو أن أيامي هناك ستكون حافلة..
حافلة للغاية..

تابع القراءة: مسار الألف ميل: خطوة البداية (2)


14 تعليق

مذكرات طالب باﻷقسام التحضيرية

سؤال وجيه:
ما هي الأقسام التحضيرية لولوج المدارس العليا للمهندسين؟
جواب أكثر وجاهة:
إنها أقسام تحضيرية لاجتياز مباراة وطنية.. وهذه المباراة تخول للناجحين الولوج إلى إحدى مدارس المهندسين بالمغرب.
قد يبدو المصطلح غريبا، إ، لم أقل شاذا، بالنسبة للمشارقة منكم.. وهذا مفهوم في ظل نظام الجامعات الأنجلوساكسوني.. لكن النظام الفرنسي المطبق هنا يعتمد على التخصص.. فالهندسة لا تدرس بالجامعات إطلاقا، و إنما في مدارس متخصصة مستقلة، مما يسمح بالتطور حسب التخصص، وعدم التقيد بنظام تعليمي معمم قد لا يناسب متطلبات كل تخصص على حدة.. وقد أثبت هذا النظام أنه الأنجع بين أنظمة التعليم العالي لحد الآن.

لماذا أتحدث عن كل هذا الآن؟ فقط كي أضعكم في الجو العام لما سأتحدث عنه في هذا القسم إلى أن ينتحر أحدكم أو يتوفاني الله..
سأتحدث عن الحياة الطلابية بهذا المسار الدراسي الذي لم يكن عاديا قط.. و الأهم من هذا أنه لم يكن مملا..
قد يكون خانقا.. قاتلا.. ممتعا.. لكنه لم يكن يوما مملا..
على الإطلاق..
هذا ما ستكتشفونه بأنفسكم لو تابعتم هذا القسم بانتظام..
فقط نصيحة لوجه الله: حضروا جردل مياه، وكيلوغرامين من الأسبرين، أ, الباراسيتامول لو كنت من ضعاف المعدة.. ولا بأس بتشكيلة محترمة من الأقراص المهدئة للعصبيين، و أقراص النيتروجليسيرين لمرضى القلب..

ماذا أيضا؟
آه.. اربطوا الأحزمة، وكفوا عن التدخين!

تابع القراءة: مسار الألف ميل: الخطوة الأولى

تحديث: هذا الموضوع لا يخص الرسائل الخاصة بالأقسام التحضيرية.. أرجو ممن لديه استفسار بهذا الخصوص مراسلتي على الإيميل.. شكرا لكم..

59 تعليق

A FEW GOOD MEN

A FEW GOOD MEN
(1992)

قد يكون دور (دانيال كافي)، خريج جامعة (هارفارد) والمحامي بالقوات البحرية الأمريكية، من أروع الأدوار التي أداها (توم كروز).. وبل ربما أروعها على الإطلاق.. دور منطلق واسع سمح له بإبراز قدراته التشخيصية الفذة التي مكنته من أن يلبس ثوب شخصية متقلبة، رقصت على إيقاعات مختلفة طوال أحداث الفيلم.. وربما يمثل مشهد (دانيال) وهو سكران إحدى أروع لقطات الفيلم، حيث لعب (توم) الدور بحرفية شديدة بعيدة عن المبالغة المألوفة في مثل هذه اللقطات، كتغيير الصوت والترنح وما شابه.. بل، وعلى العكس من ذلك تماما، لعبه على طريقة الشخصية التي لم تفقد اتزانها التام بعد.. فكان طبيعيا في وتيرة حديثه، لكنه تلاعب بالإيقاع والشكل بطريقة أبدت بوضوح أنه غير طبيعي..كل ذلك في قمة الحرفية..

(دانيال كافي).. ابن قاض عسكري شهير توفي منذ سبع سنوات..
اتبع الفتى طريق والده، بل وفاقه حنكة وبراعة.. فبعد أقل من سنة من التخرج والالتحاق بقوات البحرية، كان قد ربح سبعا وأربعين قضية تخفيف حكم عسكري بنجاح تام.. لكن الأمر كان مختلفا هذه المرة.. فالقضية الجديدة التي كلف بها لم تكن ببساطة وسهولة كل ما سبق.. ناهيك عن أنه لم يقف قط بمحكمة ليترافع من قبل..

المتهمان في القضية جنديان من قوات (المارينز) التابعة للقاعدة البحرية (غوانتانامو B ) بكوبا.. والتهمة قتل جندي تحت إمرتهما بمنديل مسموم بعد تكبيله..

(جوهان جالوي)، محامية أخرى بقوات البحرية، كان عليها أن تتحمل التعامل مع (دانيال)، بعد أن رفض المسئولون تكليفها بالقضية. وقد أدت الدور الممثلة (ديمي مور) التي أصر لسبب ما أنها (كاترين زيتا جونز) فقط، وقد تلاعبوا بمكياجها قليلا كي تبدو بهذ الصورة..

ماذا سيكون انطباع (جوهان) عن محام شاب حديث التخرج، دخل عليها مكتبها وهو يقضم تفاحة طازجة، ويرافقه مساعد يخبره دوما بالتفاصيل التي يجهلها، وهذا ما يحصل طيلة الوقت؟ شخص يصل زبوناه صباحا إلى السجن في الوقت الذي يكون فيه مشغولا بالتدريب على (البيزبول).. لذا لم يكن منها إلا أن حصلت على توكيل من القريبة الوحيدة لأحد الجنديين بالدفاع عنه، مما جعلها و (دانيال) في سلة واحدة رغم أنفه.

يتضح فيما بعد أن الحادثة كانت غير مقصودة، و أن الهدف الوحيد للجنديين كان تأديب العسكري المتوفي بأمر من الجنرال (نيتون جيسوب) قائد قوات (المارينز) بالقاعدة..
ويسقط (دانيال) في فخ إثبات الحقيقة في ظل سلطة الجنرال الواسعة، ومكانته السياسية المرتقبة..
وكان الصدام الأول بين فريق المحاماة والجنرال الذي أدى دوره (جاك نيكلسون) باقتدار شديد، مثيرا بحق.. حيث ظهرت سلطوة الجنرال واعتزازه بنفسه، واقتناعه السايكوباثي بأنه حامي حمى البلاد من الخطر الكوبي..

وتبدأ لعبة المحاكم.. ووسط ضعف أدلة النفي، وموقف الجنديين الحرج تبرز موهبة (دانيال كافي) في التلاعب بمشاعر الجميع، بطريقته الفذة في المرافعة، وحس الفكاهة الذي لا يعوزه في المواقف التي تحتاج ذلك.. وفي النهاية يضطر إلى استدعاء الجنرال شخصيا للشهادة رغم عدم توفره على الأدلة الكافية لاتهام شخص ذو رتبه عسكرية رفيعة، وهو ما قد يؤدي إلى متابعته قضائيا بسبب اتهام غير مبني لضابط رفيع.. فماذا يحدث بعد ذلك؟ يمكنكم أن تبحثوا عن الفيلم لو كنتم مهتمين!!

الفيلم يجسد بوضوح الفرق الخطير بين تنفيذ الأوامر العسكرية و بين الإنصات إلى الضمير.. صراع مبادئ، حيث تصطدم قيم الشرف والرموز العسكرية بالقيم الإنسانية..
قصة وسيناريو ممتازان، واختيار موفق للمثلين الرئيسيين، والذين دعموا بممثلين مساعدين أكفاء من طراز (كيفين بولاك) و (كيفين باكون) و (كيفر ساذرلاند) الذي لمع بسلسلة (24h Chrono).. ناهيك عن مخرج متميز ك(روب رينر)، من النوع الذي يعطي الممثلين حرة وانطلاقا كبيرين لإبداع الشخصية التي يلعبونها..

الخلاصة: فيلم يستحق المشاهدة..

5 تعليقات