حين يقرر صبي ما في بداية المراهقة أنه قد آن الأوان ليصبح رجلا، فتلك هي الكارثة التي ستحل على رأس أخته الشابة بالتأكيد. معلومة تقنية تأكدت منها تماما بعد أن بدأ ذلك الزغب الطري القصير يكسو شفتي حسن، أخي الصغير، و بدأ صوته يكتسب حشرجة محرك سيارة قديم توطئة ليتحول إلى صوت غوريلا إفريقية كما جرت العادة دوما. لقد أصبحت حياتي فجأة عبارة عن محاولات بائسة للتخلص من الملاحقات البوليسية التي يفرضها علي الوغد الصغير كأنني سر قومي وجب الحفاظ عليه. المشكلة هي أن هذا (المفعوص) يشاهد العديد من الأفلام البوليسية الرخيصة التي لا نفع لها سوى أن تزيد حياتي تعقيدا و تلهمه أكثر تقنيات التجسس سخافة: إن الفتى الذي يلقي بنفسه في أول سيارة أجرة لتتبع أخته التي ركبت سيارة أخرى قبله، ثم يكتشف بعد ذلك أن لا نقود بحوزته يدفع بها ثمن المشوار، لهو في مشكلة حقيقية.. و حينما يأتي به شرطي بقفاه إلى البيت ليسمع أبي كلمات سخيفة عن الفتى الذي لم يربى بعد، والذي سيتكفل السجن بتربيته يوما، ما لم يتم الاهتمام بسلوكياته أكثر، حينها فقط يمكنك أن تفهم حجم المشكلة..
طبعا سيتلقى الشيطان الصغير علقة ساخنة، و هو يحاول أن يقول شيئا عن الفتاة التي لم تلق تربية كافية، و تتجرأ –تصوروا –على ركوب التاكسي وحيدة مع السائق الذي هو بالمصادفة وحش آدمي. إلا أن أذني أبي لم تكن حينها تنصت سوى لبقايا عبارات الشرطي الجارحة عن فشله في تربية ابنه. إن أبي يتحول إلى وحش كاسر في هذه الحالات بالفعل، وقد احتاجت أمي إلى ما هو أكثر من التوسل والتهديد كي توقف عملية إعادة تلوين الجلد التي كان يمارسها على الفتى.
كان عقابا أشد قسوة مما يجب بالفعل. فالصبي كان مشدودا فقط بالحركات السينمائية الدرامية و لم يقدر العواقب فقط. إلا أن هذه الشدة أرضتني نوعا. على الأقل سيشفيه هذا العقاب من مرض الرجولة المبكرة و الخوف الهستيري على شرف العائلة الذي و لابد لفتاة، كما يعتقد، أن تدنسه.
إلا أن المسلسل العربي لم ينته بعد للأسف. ويبدو أن (العلقة) كان لها تأثير المنشطات على نشاطات الفتى. فقد أصبحت أشاهد قفاه في كل مرة ألتفت فيها إلى الخلف في شارع ما. المشكلة انه ينفي ذلك دوما حينما أشكوه في البيت و كأنه يتصور أنني لن أتعرفه لمجرد أنه يلتفت متظاهرا بالمشي في الاتجاه المقابل كلما فاجأته بنظرة خلفية.. إما أن هذا القرد الصغير يظن أنني أضعف بصرا من بقرة حلوب لمجرد أنني أضع نظارات، أو أنه – وهذا هو الأرجح- يتمتع بعبقرية غباء غير محدودة. و هذا ما أكدته لي آخر تجربة لي معه حينما التفتت بسرعة كبيرة لم تسمح له بالاختباء، و ما كان منه إلا أن أغمض عينيه كي لا يراني متصورا أنني لن أراه أيضا.
وفي يوم من الأيام دخل حسن على والدي وهو يحاول أن يرسم على ملامحه خطورة الدنيا والآخرة، وكدت أرى لوزتيه و هو يصرخ أنني عديمة التربية و أنه رآني مع رجل في الحي أبتسم له في حياء. فما كان من أبي إلا أن مارس لعبة قلب السحنة التي يتقنها بشدة. و التفت ناحيتي و الشرر يقدح من عينيه قبل منخريه.. و لما أبديت استنكاري الشديد وأنكرت كل ما قيل التفت إلى الصبي يسأله عن التفاصيل. فأخبره الفتى بأن الحكاية حدثت أمس على السادسة مساء.. حينها كدت أفقد أعصابي وأتحول إلى سفاحة.. ففي الوقت الذي يتحدث عنه كان الشخص الذي يقف معي هو حسن نفسه ببساطة شديدة.. والفضيحة العظمى هي أنه أجاب بعد أن رميت بدفاعي قائلا: ” وماذا في ذلك؟ أو لست رجلا أيضا؟”. يومها تيقنت أن الصبي مجنون تماما وأنه كارثة قومية وجب التخلص منها صونا لمستقبل المجتمع المدني..
لقد طفح الكيل، و لم تعد لدي أعصاب تتحمل.. أصبحت أرى حسن في كل مكان.. حينما أتطلع إلى المزهرية أرى رأسه يبرز من بين الزهور.. حينما أفتح الصنبور أرى مخاطه يسيل بدل الماء، و أرى الصنبور بأكمله قد تحول إلى تشكيل أشبه بأنف القرد خاصته.. حينما يلتفت المحاضر ليكتب شيئا على اللوح أرى المصيبة الصغيرة يمسك بقفا بذلة الدكتور بيد واحدة، ويتدلى إلى الأمام و قدميه مثبتتان على ظهر الرجل بأسلوب طرزاني شهير.. خلاصة الأمر، لقد بدأت أصاب (بحسنوفوبيا) أو جنون اضطهادي انعزالي، أو أي اسم من تلك الأسماء العجيبة التي يغرم بها علماء النفس المخبولين. ولم يكن هناك بد من وضع حل لهذه المعضلة.
كانت الحلول المطروحة من شاكلة الدفع من عل، أو القتل بالسم، أو بمسدس كاتم للصوت والصورة.. وكان الحل الأكثر إغراء و الأقل تكلفة هو خنق أنفاس الفتى بمخدته و هو نائم.. إلا أنني أحجمت عن هذه الأفكار لأسباب أخلاقية واقتصادية واجتماعية لا تخفى على أحد. لكن الفرج أتى أخيرا في شخص ذلك الفتى الخجول الودود، الملقب بالمعلم فتحي، الذي طالما رمقني من بعيد كلما خرجت أو دخلت إلى البيت.. لم يحاول أن يحاول أن يكلمني يوما.. كانت نظراته فقط تقول كل شيء دون أن يحتاج لنطقه. لحسن حظي أنه من عائلة محترمة لا بأس بنفوذها المادي. نفوذ من النوع الذي تشم رائحته في اللحم الطازج الذي تعج به محلات الجزارة التابعة لهم، والمواجهة لبوابة بيتنا. هذا ييسر كل المعوقات للوصول إلى رضا والدي طبعا.. ولحسن حظ الفتى أن الصبي المفعوص لم يلاحظ يوما نظرات الإعجاب تلك، و إلا لكانت زيارة والديه اليوم إلى بيتنا لطلب يدي ستتحول إلى زيارة إلى مستشفى المجانين حيث كان سيضمن إقامة مجانية مريحة لمدة طويلة.
كان يوما عالميا في بيتنا. العريس المنتظر سيحضر اليوم. والخوف كل الخوف من حسن وما يمكن أن يسببه من مشاكل تتنوع بتنوع عدد شعيرات شاربه. لذا فما كان من والدتي إلا أن أعطته بضع دراهم كي يذهب ويحيل حياة صاحب إحدى صالات اللعب إلى جحيم كالعادة. إلا أن الوغد الصغير فاجأنا و هو يطرق الباب متقدما العريس المنتظر وأهله، و على شفتيه أشنع ابتسامة ود يمكن رؤيتها. وكادت والدتي يغمى عليها و هي تتخيل عدد الفضائح التي خرجت من فيه القرد الصغير في الدقائق التي قضاها من أهل العريس. أما والدي فما كان منه إلا أن دعا أهل العريس للدخول وهو يحلف أغلظ الأيمان في سره أنه و لا بد فاتك بالصبي لو سبب أية مشاكل.
و لم يخب ظن الاثنين. فما أن بدأ الحديث حتى سأل أهل العريس عن مصير الخطيب السابق الذي هو بالمصادفة سائق التاكسي الذي أقلني حينما تبعني حسن. فأسرع يهتف أن لا وجود لخطيب سابق و لا سائق تاكسي ولا عربة خيول حتى.. و لكن عدم الاقتناع بدا على محياهم جليا واضحا.. فعقلهم لم يتصور وجود عقلية ابتكار فذة كهذه لدى صبي في مثل عمر حسن. لذا فقد افترضوا سوء النية من البداية و ساءتهم محاولة مداراتنا للحقائق التي لا يستطيع الصغار إخفاءها، و خصوصا أن القرد الصغير أخبرهم بأن والدته لا تريد منه أن يحضر اللقاء، و أعطته نقودا لذلك.. فماذا سيظنون في فتاة كهذه بعد كل هذا؟
و هكذا ترون أن حلم العمر الفتى الودود (سي فتحي) قد طار و طارت معه أحلام الزواج إلى غير رجعة بسبب مفعوص صغير لم يعد كذلك بعد أن حوله أبي إلى خردة تصلح للبيع كقطع غيار آدمية..
آه.. نسيت أن أخبركم شيئا في البداية.. أنا نادية.. فتاة ملفوفة القوام، عمرها أربعون سنة فقط و مثقفة حيث أنها تتم دراستها بالجامعة.. و والله بنت حلال.. و حتى أخي سأرميه من الشباك بمجرد أن يقترب أحدكم من بوابة البيت.. انووا انتم فقط و توكلوا على الله..
14 تعليق