تجاوز المحتوى

(سمير).. (سمير).. أشياء مشابهة..

سابقا في مذكرات طالب بالأقسام التحضيرية:
مذكرات طالب باﻷقسام التحضيرية
مسار الأف ميل:خطوة البداية (1)
مسار الألف ميل: خطوة البداية (2)
جولة سياحية معتبرة(1)
جولة سياحية معتبرة(2)
جولة سياحية معتبرة(3)
يوم أول!!

دخلنا الفصل لأول مرة.. هناك طاولات منفصلة وكراسي فردية أكثر انفصالا..
حمدا لله! إنتهى عصر المكراسي الخشبية القصيرة المزدوجة الملتصقة بالطاولات، تلك التي لا تسع لا ركبنا ولا مؤخراتنا.. كراسي تعودنا عليها منذ المدرسة الإبتدائية، مرورا بالإعدادية وانتهاء بالثانوي.. وهذه الأخيرة بالذات عرفنا فيها أحد أهم أضرار النمو الجسماني.. لقد اعتبرنا هذه الكراسي دوما إحدى الطقوس التربوية التي لا يمكن الإستغناء عنها.. لذا يمكنك أن تفهم فرحتنا غير المبالغ بها، واغروراق عينينا بالدموع حينما وجدنا كراسي تحترم أجسامنا أخيرا..
كنا أربعة من الشلة إياها بنفس الفصل.. كان ذلك رائعا لاننا لم نكن بحاجة إلى الجلوس منفردين كالقردة نتطلع إلى الآخرين بترقب.. كنا قد خلقنا مجالنا بمجرد أن وضعنا أقدامنا بالفصل..
ثم…
تبا!!
ليس مجددا!
إنه هو!
أكاد أقسم على ذلك..
لكزت (عبد الله) بمرفقي، لكنه كان غارقا في الحديث مع الآخرين.. أعدت اللكزة بقوة أكبر حتى كاد مرفقي الرفيع يخترق جانبه.. هنا انتبه إلي مجبرا..
-” إنه هو..”
قلتها بنبرة يائسة..
-“من؟”
-“جهاز الراديو المتحرك..”
-“من!؟”
ألقى نظرة حيث أشرت، فحرك رأسه إيجابا وقال بنبرة من رضي بالقضاء والقدر:
-“إنه هو بالفعل..”
يقولون أن الفرنسيين أسرع وأكثر أهل الأرض حديثا.. لكن هذا الشاب، الذي سندعوه هنا (سمير) أثبت لي بما لا يدع مجالا للشك أن المغاربة يمكنهم انتزاع اللقب بسهولة..
التقيناه لأول مرة حينما أتينا لتقديم شهادة الباكالوريا في بداية الصيف.. كان وحيدا.. جالسا بجانبي و(عبد الله)، بجسده الضخم ومحفظته الجلدية الأضخم.
لست أذكر من بدأ الحديث، لكنني لن أغفر لنفسي أو لـ(عبد الله) ما حييت لو كان أحدنا من فعل.. فقد كان ذلك إيذانا ببدء قناة (سمير) الإذاعية المتحركة..
استبسلنا بتحمل الأمر ما يقارب الساعتين ريثما نتمم إجراءات التسجيل ونفر بجلودنا.. وحينما أتت لحظة الأمل بالخلاص، أطلق (سمير) آخر مدافعه المبيدة للبشر بأن أصر، وكاد يحلف أغلظ الأيمان وأرفعها، بأنه ولابد مرافق لنا في جولتنا بأكادير لهذا اليوم..
أمام شخصية كاسحة كـ(سمير)، لا يمكنك أن ترفض شيئا.. ليس لأن شخصيتك ضعيفة، أو أنك لا تملك الحزم الكافي للرفض، بل لأنه يحرمك حتى حق التفكير بأن يمتص الأوكسيجين من محيطك ويخنقك ويصيبك بصداع قاتل، تصبح معه مجبرا على الموافقة فقط كي يخرس قليلا.. لكن أملا كذلك كان بعيد المنال..
أخَذَنا في البداية إلى مقر إحدى الجمعيات ذات الأسماء مرعبة الطول من طراز: “الجمعية الرياضية الثقافية الإجتماعية لرعاية الطفولة المحرومة والرجولة المفقودة اقتصاديا وسياسيا وسوسيو ثقافيا”..
إن سمير من الجنوب.. لكن لديه معارف بالميدان الجمعوي والحزبي أينما ذهب..
أذكر من ضمن شلال المعلومات الذي سكبه في آذاننا أنه عضو ببرلمان الطفل.. كنت قد نظرت إليه حينها باستهجان وأنا أزن عرضه قبل طوله.. لو كان هذا الفتى كله طفلا، فلا بد أنه كان في جسد يافع حينما ولد مباشرة..
طبعا لم أخبره بهذه الملاحظة لأسباب يطول شرحها.. وعلى العموم هو لم يكن يعطينا فرصة للتنفس فما بالك بالحديث..
وأخيرا حدثت المعجزة وافترقنا.. ويمكنك أن تقول بضمير هانئ أننا فررنا تقريبا بعد أن ابتدعنا جميع أنواع المسببات وتذرعنا بأشنع الذرائع..
قلت لعبد الله ونحن نكمل طريقنا فوق الرمال ونستمتع بنعمة السكون:
-“هل تسمع؟”
أجابني مباشرة:
-” الطنين..”
-“هو ذاك”..
صدقوا أو لا تصدقوا.. كان هناك طنين بآذاننا يشبه تماما ذلك الذي يلي الجلوس بجوار مكبر صوت قوي في عرس من الأعراس، حيث يتمتع المغني بخرم طبلة أذنك بصوته الشجي، وأغانيه الشعبية الفذة..
تفهمون الآن سبب حالة الإحباط التي أصابتنا حينما وجدنا الفتى معنا في نفس الفصل. إن أشنع كوابيسنا كان قد تحقق أخيرا.. ظننته لن يتواجد لفترة لا بأس بها لأنه سيظطر للسفر إلى أمريكا لسبب من الأسباب الجمعوية الحزبية الخرافية تلك.. لكنني اكتشفت فيما بعد أن شلال الحديث ليس موهبته الوحيدة.. و أنه يتمتع بموهبة استعراضية فذة من طراز “انظروا إلي”..
رغم كل شيء.. ورغم عيوب الفتى الفذة، فأنا مقتنع، وربما أكون الوحيد، أن الفتى طيب القلب.. ولقد كنت أحد أصدقائه القلائل دوما.. فهل كان يعتبرني كذلك؟

* * *

دخل الأستاذ الفصل أخيرا.. وكأي أستاذ رياضيات يحترم نفسه، كان أرفع من عصى مكنسة.. ولم يكن يهتم بمظهره كثيرا، لدرجة أنه في فترة من الفترات كان يترك لحته تنموا بشكل مجعد دائري غير عادي.. ولو فصلت رأسه عن جسده حينها فستجد صعوبة بالغة لتعرف مكان شعر الرأس من شعر الذقن..
كان مدخنا حريفا..
كان قاطرة بخارية قديمة..
بل كان كبركان (كيليمانجارو) ذاته..
لم يكن يدخن النيكوتين، بل يأكله.. فلم أر بحياتي من ينهي سيجارة حتى العقب في أربع أو خمس شفطات سواه..
كلما استعصى عليه برهان ما، يخرج لدقيقتين أو ثلاث كي يمتص سيجارة، يرمي العقب من الرواق نحو ساحة بالأسفل، ويدخل ليجد الحل مباشرة.. ولكم أن تتصوروا فراش أعقاب السجائر الذي كان يكسوا المنطقة التي يرمها بها.. هذا لو تبقى منها شيء أصلا.. لو كانت الأعقاب تبتلع، لفعلها الرجل بدون تردد..

حين ننام كأجولة البطاطس

تعليقات على الفيسبوك

Published inمذكرات

3 تعليقات

  1. ضياء ضياء

    ارجو ان تكمل مذكراتك.

  2. سأستمر عما قريب..
    شكرا للمتابعة..

  3. رفعت خالد رفعت خالد

    بسم الله الرحمان الرحيم..

    الأعز عصام..

    مرة أخرى تسبب لي قراءة مواضيعك نوبة حادة من الضحك المكتوم الهستيري.. أعرف أمثال هذا الـ (سمير)، و تأكد أنك أينما ذهبت و أنّا حللت ستجدهم بانتظارك !.. حتى أنني فتحت الصنبور ذات يوم فسقط شخص ضخم الجثة و قال لي مباشرة أنه سمير..

    على كل حال.. أنوه بطريقتك الفذة في كتابة المذكرات.. فأنا أذكر عندما كنت بالإعدادي أنني فور سماعي لعبارة اليوميات هرولت للمنزل و كتبت شيئا على غرار:

    11:15 صباحا.. رشفت الشاي بعد أن خرجت من الحمام مباشرة و أنا الآن أقلم أظافر رجلي و أكتب هذه الكلمات..

    ربما أقلدك في المستقبل القريب و أقوم بمحاولة فعلية لكتابة (( يوميات مرعبة لطالب بالجامعة )).. و تذكر أن القرصنة متفشية ببلادنا و لن ينفع احتجاجك.. نياهاهاهاها..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.