إن أفضل وآمن وسيلة للسفر بهذا البلد السعيد هي الطائرة، كيفما كان نوعها: نفاثة، أو طائرة ركاب، أو مروحية. وحتى لو تم إطلاقك شخصيا في الهواء بواسطة مدفع ما ، وكفلت لك سلامة الهبوط، فذلك أسلم لك من محاولة استعمال وسيلة أرضية. يبقى العائق الوحيد هنا هو السلامة المادية التي تقف في مواجهة السلامة الصحية. لذا يتجاهل المواطن العادي وسيلة التنقل هذه، محاولا إقناع نفسه أن الأخوان (رايت) لم يولدا قطا، وأن الطائرة مجرد خيال علمي أو أسطورة من أساطير الأولين!
وحينما تنزل شيئا ما، أو أقول تهوي، في السلم الاجتماعي، فيمكنك أن تقرر المرور إلى القطار كوسيلة بديلة تكفل حدا أدنى من السلامة والراحة. هذا لو تحدثنا عن الدرجة الأولى. أما لو اخترت الدرجة الثانية – ومن ذا الذي يختارها برغبته! – فيمكنك أن تهنأ بقدر لا بأس به من الراحة في الأوقات العادية.. تلك الراحة التي ستدفع ثمنها غاليا في أوقات الذروة. أما لو كان الزمن عيدا أو مناسبة من هذا القبيل، فلن أضمن لك أن تجد لأصبعك الأصغر مكانا غير أنف أحد الركاب المجاورين، أو يجد هو لكوعه مستقرا سوى ببطنك.
ثم إن ترف ركوب القطار هذا مقتصر على منطقة المغرب النافع كما يسمونها، حيث لو أردت أن تذهب بالقطار أبعد من مدينة مراكش جنوبا، فعليك أن تصنع بجسدك وجسد المواطنين الوطنيين رفقائك تتمة للسكة الحديدية، لو كنت من المتحمسين لتقدم البلاد، وذلك بعد أن يئسنا من المشروع الذي سمعنا عنه منذ بداية التسعينات، والذي يتحدث عن سكة حديدية تصل إلى مدينة العيون..
لا بأس.. نحن دوما متفائلون بمغرب الغد:
تطلعنا إلى عشرة ملايين سائح في أفق ألفين وعشرة، ويبدو أننا لن نحصل منهم أكثر من النصف، مع العلم أن أكثر من نصف النصف هذا عبارة عن مهاجرين مغاربة أصلا، ولا نزال متفائلين..
تطلعنا إلى استضافة كأس العالم ألفين وستة، فجهزنا ملاعب خربة، وقدمنا وعودا خرافية للفيفا لم نفي بنصفها، وحصل الألمان عليها، ولا نزال متفائلين.. فقمنا بالترشيح لألفين وعشرة، وقلنا أن الثالثة تابثة.. وتداركنا بعض الأخطاء لنقع في أخرى أشنع.. وارتكبنا خطأ سياسيا جعل ماما أمريكا تسحب دعمها لترشيحنا، فصفعتنا جنوب إفريقيا على قفانا.. لكننا لا نزال متفائلين..
توقفت جل المنشئات التي كانت مرتبطة مباشرة بالمونديال، ولا زلنا متفائلين..
بدات الشركات الوطنية تعاني من المنافسة الشنيعة للبضائع الأجنبية بعد أن بدأنا فتح السوق على مصراعيها، وعما قريب ستبتلع تماما أمام الاكتساح الأمريكي المرتقب، ولا تزال تجد متفائلين..
لقد حققنا الإكتفاء الذاتي، وأكثر من الإكتفاء الذاتي، من التفاؤل. وعلينا أن نبدأ بالتصدير للخارج..
ما علينا.. فلنبق متفائلين، ولنبحث عن جواب للسؤال التالي: ما الحل لو كنت ستتجه إلى منطقة جنوب مراكش مثلا؟
الجواب البسيط الواضح المباشر الذي حاولت كثيرا التهرب منه ولم أفلح، هو الحافلة..
لن أنشر الغسيل الوسخ هنا وأتحدث عن حافلات النقل القريب التي تعد علب الصفيح جنة الله في الأرض مقارنة بها.. ذلك النوع من الحافلات الذي يترك فيه بين الكرسي والآخر أمامه مسافة تكاد تكفي لعجن قدميك بالقوة الجبرية، لو كنت من سعداء الحظ ذوي القامات القصيرة. أما لو كنت طويل القامة فلن تجد حلا سوى أن تضع قدميك مؤقتا مع حقائبك في مخزن البضائع بالأسفل! هذا تفاديا لأن تثقب الكرسي الأمامي بركبتيك وتهشم للجالس به عموده الفقري.. لن أتحدث عن هذا النوع من الحافلات التي يمكن لمساعد السائق (الكمسري، أو الغريسون) فيها أن يبصق على وجهك في أية لحظة مطالبا إياك بالنزول لأنك لم تخبر سعادته بأنك ركبت، ولم تدفع ثمن التذكرة الذي يحدده بعد.. هذا النوع من الحافلات يختفي تماما بالمناسبة من المحطات في الأعياد والمناسبات، وذلك لأنه لا يدخلها إطلاقا، بل يعبىء الركاب من خارجها بأثمنة فلكية.. حسنا، أعدكم بأنني لن أتحدث عن هذا النوع من الحافلات.. فلحسن الحظ، هنالك الآن نوع آخر من الحافلات المخصصة للمسافات البعيدة، وتتحرك ليلا في غالب الأحيان.. هذا النوع الذي ألفناه كطلبة منذ فترة لا بأس بها، وقد كان يفي بالغرض تماما، ويكفل الحد السفلي من الراحة على الأقل إلى حد قريب.. لكن السعادة الأزلية أصبحت ترفا بعيد المنال.. فقد بدأت هذه الحافلات تتقادم، وبدأت الأعطاب الداخلية تظهر قبل الخارجية، وأصبح احتمال التوقف في الطريق أكثر من احتمال التحرك..
في آخر مرة سافرت فيها نحو الرباط، قطعنا ما يقرب من السبع ساعات بين مدينتي تيزنيت ومدينة أكادير.. مع العلم أن المسافة الفاصلة هي مائة كيلومتر لا غير.. لو كنا أخذنا المسافة جريا خفيفا لكنا قد وصلنا قبل ذلك بكثير!!
ولا داعي للحديث هنا عن شركة محترمة كستيام مثلا لأن أثمنتها الفلكية تلجم الألسن الشعبية البسيطة قطعا..
هذا ما رأيناه من نافذة المواصلات.. فليذبح الديك إذن، ولنخرس عن الكلام غير المباح..
6 تعليقات