تجاوز المحتوى

الكاتب: عصام

ترررن ترررن.. تربن تربن.. (على رأي سعيد صالح)

تعرفون قصة نيوتن مع التفاحة بالتأكيد.. لابد و أن الجميع سمع عن هذه القصة الظريفة التي يكون فيها نيوتن مستلقيا تحت الشجرة فتسقط على رأسه تفاحة منها، ليصبح هذا الحدث الجلل من أهم الأسباب اكتشاف الجاذبية..
لا يمكنني أن أتصور وضع العالم قبل أن تكتشف هذه الأخيرة.. ربما كان الجميع يربطون أنفسهم بحبال إلى الأرض قبل ذلك كي لا يحلقوا في الفضاء.. أو ربما كانوا ينتعلون أحذية حديدية تزن مئات الكيلوغرامات.. لا أحد يعلم بالتحديد..
و لكن دعونا من كل هذا، فسأحدثكم عن قصة أخرى..
تسمعون بالتأكيد عن قصة مخترع الهاتف.. يقولون أن الرجل كان مستلقيا تحت شجرة بدوره في أحد الأيام الخريفية الرائعة، فإذا بهاتف يسقط فوق رأسه من الشجرة.. حادث طريف آخر كان الرجل بعده بحاجة إلى خياطة عاجلة لجرح رأسه قبل أن يتمكن من معاودة التفكير من جديد.. و أدت هذه الحادثة إلى إلهام كبير له كان السبب الأكبر في اختراع هذا الجهاز الفذ المسمى هاتفا..
و لكن الهاتف لم يلبث أن تطور، و تقدمت تقنيته.. وبعد فترة أصبحت حاجة ملحة إلى اكتشاف جديد يسهل الاتصال في أي وقت و أي مكان.. و أظن أنكم قد فهمتم النظام الآن. لذا لن أقول إن أحدهم كان نائما تحت شجرة فسقط عليه هاتف نقال مما أدى إلى اختراع هذا الأخير، فهذه الأشياء قد أصبحت بديهية الآن.
أصبح الهاتف النقال الآن شيئا عاديا في مجتمعنا.. و بعدما كان قبل سنوات معدودة عبارة عن وحش خرافي من الوحوش الالكترونية لأفلام الخيال العلمي، أصبح الآن امتلاكه متاحا لجميع الفئات: من رجل الأعمال الثري إلى رجل يبحث عن هذه الأعمال.. و من صاحب سوبر ماركت يبيع كل شيء من الإبرة للصاروخ، إلى صاحب دكان صغير يبيع كل شيء من رغيف الخبز إلى رغيف الخبز.. يمكنك الآن أن تشاهده في يد شيخ عجوز مصاب بالشلل الرعاش، كما يمكنك أن تجده في يد (مفعوص) صغير لا يزال يحاول أن يمشي لوحده دون أن يهشم رأسه..
و ما يثير الدهشة حقا هو هذا التطور المدهش في حجم و كفاءة هذه الأجهزة.. لا زلت أذكر هاتفي النقال القديم الذي يملك محبة خاصة إلى نفسي و الذي لا زلت أحتفظ به في درج مكتبي كما يحتفظ عالم الآثار بتحفة أثيرة. صحيح أنه أشبه بثلاجة منه بهاتف، كما أن أحد الأصدقاء يصر على تسميته ب” إبراهيم يرفع إصبعه ” ، إلا أن هذا لا يمنع أن له فوائد جمة تختلف تماما عما صنع لأجله.. ففي أوقات الشدة يتحول بقدرة قادر إلى سلاح أبيض قادر على شج أعتا الرؤوس وأكثرها صلابة.
أما أشنع تحول عرفه عالم الهواتف النقالة هو تطور الأحاديث المتبادلة. فبعد أن كان الجهاز يعتمد محادثات مثل:
– مرحبا..
– سيد (…) هناك اجتماع عاجل في الإدارة.. لذا نرجوا التحاقك بنا في أسرع وقت لو سمحت..
– حسنا.. أنا في طريقي إليكم.
أصبح الآن ينقل محادثات مثل:
– ألو!! (المقدمة المعتادة)
– آلو!!” (الجواب الروتيني)
– أنا حليمة يا مختار (كي لا يظن الزوج أنها خديجة زوجته الثانية في السر.. ظننت الأمر واضحا).
– أعرف يا حليمة.. أنا أرى أن رقم هاتف المنزل على شاشة هاتفي.. بالتأكيد لن تكون هيئة الإطفاء هي المتصلة..
– لن أفهم ذلك السحر الذي يعمل به ذلك لهاتف الذي تحمله أبدا..
– هذا أفضل..
– ماذاااااااا!!! (باستنكار)
– ماذا تريدين يا حليمة..؟
– هل تحب (الكرعين) بالحمص أم بدون حمص؟
– هل هذا سبب اتصالك الآن يا حليمة؟ (بسخط)
– أجل (بوداعة)
– إذن فلتكن (كرعين) بالفول السوداني..
– ماذا قلت؟!!!!!!
“لا يمكنكم الاتصال بمخاطبكم لأنه خارج نطاق التغطية…”

و هناك أمثلة أشنع لا يتسع الوقت و الخاطر لذكرها الآن..

ماذا لو تحدثنا قليلا عن تلك المسابقات الهاتفية الفظيعة التي تقوم بها جميع القنوات التليفزيونية لأجل عيون المواطنين. أعترف أنني كنت مغفلا كبيرا حينما بدا لي الجواب تافها في أحد مسابقات الفوازير، فقررت أن أشارك. اتصلت بالرقم المشئوم و الذي يكون دوما تذكره أسهل من تذكر اسمك ذات نفسه. و بعد لحظات انتظار قصيرة أتاني صوت رقيق لفتاة ترحب بي في برنامج الفوازير. كنت أتوقع أن يكون الصوت الذي يجيبني معدنيا كما يحدث في أي فيلم خيال علمي يحترم نفسه. إلا أنني تذكرت أن أحدهم أخبرني يوما أن الصوت يكون مبرمجا ليرد آليا على المتحدثين، و هو كلام لم أفهمه صراحة لأنني لم أكن يوما ممن يهتمون بالتكنولوجيا.
كنت أتجنب الاندماج مع صاحبة الصوت في محادثات جانبية غير ذات معنى، فلم أرد عليها التحية كي لا ندخل في مسألة التعارف و السؤال عن الحال و الأحوال و عن العائلة المحترمة و صحة الوالد و الجدة، و ربما ينقلب النقاش إلى سمر سياسي أو اقتصادي، أو أي شيء مبهج آخر تحاول الفتاة أن تسوقني إلى الحديث فيه كي أدفع تكلفة أكبر.. أنتم تعرفون أن الأذكياء مثلي لا يقعون في هذه المقالب الساذجة..
و لقد كانت طريقة تحديد الجواب سهلة جدا، فقد قالت الفتاة:
– مرحبا
صمت قصير كنوع من الإثارة و الترقب.. ثم:
– أنت معنا في مسابقة فوازير رمضان..
صمت قصير آخر..
صمت من فئة درهمين و نصف.. ثم:
– إذا كان اختيارك هو الجواب الأول، فعليك ضغط الزر رقم سبعة.. و إذا كان اختيارك هو الجواب الثاني، فعليك ضغط الزر رقم خمسة.. و إذا كان جوابك هو الجواب الثالث، فعليك أن تضغط الزر رقم عشرة (مهمتك أن تبحث عنه)..
المهم أنني لم أضغط أي زر بعد المكالمة، بل اكتفيت بارتفاع ضغط دمي، و بإصابتي بالفالج و بعض مقدمات الاكتئاب الانفصالي..

في الحقيقة، هناك الكثير مما يقال في هذا الموضوع، و لكن هذا يكفي الآن. علي أن أرحمكم قليلا على ما يبدو..

4 تعليقات

مسار الألف ميل: خطوة البداية (2)

سابقا في مذكرات طالب بالأقسام التحضيرية:
مقدمة مملة لابد منها
مسار الأف ميل:خطوة البداية (1)

-” إلى اللقاء..”
قلتها و أنا أخرج حقائبي عند البوابة الخلفية للمركز حيث مدخل الداخلية..
تطلعوا إلي جميعا في استنكار قبل أن تقول والدتي:
-” أتينا إلى هنا جميعا، ونتركك قبل حتى أن تتم إجراءات التسجيل وتستقر؟”
آخ.. هذا ما كنت أخشاه.. الشاب الوحيد الذي رافقه أهله كأي طفل صغير كي يطمئنوا عليه في مكمنه الجديد.. أيٌ فضيحة أكبر من هذه في اليوم الأول بالمكان؟
أعدت الحقائب إلى الحقيبة الخلفية للسيارة، وركبت من جديد قائلا:
-“في هذه الحالة، فلندخل بالسيارة إلى الداخل كي نقترب أكثر!”
لم يكذب أبي خبرا، فأعاد إدارة المحرك قائلا:
-“حسنا.. أتعشم أن يكون دخول السيارة إلى المكان مسموحا!”
أغمضت عيني ونحن نجتاز البوابة وأنا موقن أن الفضيحة وشيكة.. وحينما فتحتهما فوجئت بمجموعة من السيارات من مختلف الأنواع والأحجام متناثرة هنا وهناك.. و الأهم من ذلك، مجموعات بشرية من مختلف الأعمار والأشكال..
تنفست الصعداء أخيرا، فلست الشاذ الوحيد هنا.. بل إن السواد الأعظم من المرافَقين هنا يبدون في حالة قاتلة من الرضا عن النفس وعن الآخرين، وهم في غاية السرور كأنهم يدخلون جنة الله في الأرض..
اقترب منا شيء ما يمكننا بشيء غير يسير من التجاوز أن نصطلح على تسميته كلبا.. تطلعت إليه، وابتسمت مرغما.. ثم لم أتمالك نفسي وقد عاودتني نوبة السماجة المألوفة، فأشرت بيدي بحركة شيكسبيرية نحو المخلوق قائلا بأكبر قدر ممكن من الفخامة:
-“أقدم لكم اللورد الكابتن كلب الأقسام التحضيرية المدرٌب!”..
طبعا كان لابد من اعتراض من أمي باعتبار أن أحدهم قد يسمعني ويظنني أتحدث عنه، و أنه لا يجب علي أن أبدأ بعداوات منذ البداية، وأشياء من هذا القبيل من النوع الذي تجيده كل الأمهات طبعا..
لكن موجة السماجة كانت قد ركبت دماغي بالفعل ولم يعد أحد يستطيع إيقافي:
-“هيه!! أيها الكلب.. يا كلب!”
نظرت إليهم عاقدا حاجبي على الشكل العادل إمامي الشهير مضيفا:
-“لماذا لا يغضب؟! العجيب أنني نعته بالكلب ولم يحرك ساكنا! أليست لديه كرامة؟ إن كلاب (أكادير) لغريبو الأطوار بالفعل!”
في هذه اللحظة وصل زملائي القدامى من المرحلة الثانوية لينقذوا أفراد أسرتي من الإصابة بالفالج..
دعونا نتجاوز مرحلة إجراءات التسجيل المملة فملامحها تتكرر في كل زمان ومكان.. فلا بد من الطوابير الملتوية كالثعابين.. ولبد من موظفين متكدري المزاج دوما.. ولابد من أن تحتاج بضعة سنتيمات حقيرة كي تدفع ثمن الدمغات، وأنت كالعادة لا تملك سوى ورقات مالية من النوع السمين.. باختصار: الروتين المعتاد..

إن رفيق غرفتي القادم يسمى عبد الله، وهو صديق قديم بالفعل، لكنني لم أجرب قط أن أعاشره المسكن.. الحقيقة أنني لم أجرب قط أن أعاشر أيا كان سوى أسرتي، فلا داعي للحذلقة إذن..

رافقنا (((معلم))) الداخلية إلى غرفتنا.. ولفظة معلم هنا بين ست أقواس لأنني غير مقتنع بها، و إنما هي محاولة ترجمة حرفية لكلمة (maître) الفرنسية.. إنه ببساطة طالب بكلية أو معهد ما، وهو يقطن بداخلية المركز مقابل القيام بمجموعة من مهام المراقبة والضبط نظير أجر هزيل..

كان من المؤكد أن نجد أن شيئا ما ليس على ما يرام، خصوصا قد اجتمعت قوى النحس الخرافية خاصتي بالتي تخص عبد الله في مزيج غير مسبوق: كانت كل الغرف المجاورة سليمة إلا غرفتنا التي لا يمكن أن نسميها كذلك ما دامت لا تتوفر على قفل ما أو أي شيء يسمح لها بأن تغلق.. مجرد حاجز خشبي دون مقبض أو قفل..
التفت إلى (عبد الله) قائلا:
-“سنقطن بالسوق البلدي على ما يبدو”..
وذلك كناية عن انعدام الأمن في ظل البوابة المواربة..
والآن علي أن أعترف.. كان لبقاء أسرتي، حفظها الله لي، إلى هذه اللحظة دور كبير في حل المشكلة بسرعة.. ربع ساعة وكنا قد اشترينا مقبضا وقفلا جديدين، وتمكنا من تركيب كل شيء باستخدام العدة التي يصر أبي على أن ترافقه أينما ذهب بالسيارة.. غير ذلك كنا سنضطر للبحث عن نجار لا أدري كم كان سيقبض كثمن للتنقل، ناهيك عن أننا كنا سنقضي ما يفوق الساعتين قبل أن نشتري المقبض والقفل أصلا..
وكان لابد من أن أسمع تعليقا من طراز:
-” أرأيت؟ و أنت الذي كنت تريد منا أن نرحل بسرعة!”
ثم رحل أفراد الأسرة، بعد كم مهول من النصائح والإرشادات التي لم أعد أذكر منها حرفا بالطبع بمجرد أن غادروا..
وكانت المفاجأة المفرحة هي أنه بمعجزة ما اجتمعنا نحن القادمون الستة من مدينتي في منطقة واحدة، وهي عبارة عن ثلاث غرف متجاورة في رواق واحد خاص..
اقترح أحدهم أن نغلق مدخل الرواق ببوابة، ونعيد هدم وبناء الجدران الداخلية كي نعيد تفصيل الشقة على ذوقنا.. وقد كان محقا.. فقد حصلنا على منطقة خاصة بنا فقط عكس كل القادمين من مدن أخرى..
أمضينا الليلة في السمر طبعا والكل يداري قلقا خفيا من مصير مستقبلي مجهول..
وفي الغد كانت تنتظرنا مفاجأة مذهلة: سقوط برج التجارة العالمي..
لم نشغل أنفسنا بالتفسيرات السياسية أو التكهنات أو التوقعات.. كل ما كان يشغلنا حينها هو أننا لا نملك تلفازا نتابع فيه ما يحصل!!
تبا!!

تابع القراءة: جولة سياحية معتبرة(1)

 

14 تعليق

رجولة مبكرة.. عنوسة متأخرة! (قصة قصيرة ساخرة)

حين يقرر صبي ما في بداية المراهقة أنه قد آن الأوان ليصبح رجلا، فتلك هي الكارثة التي ستحل على رأس أخته الشابة بالتأكيد. معلومة تقنية تأكدت منها تماما بعد أن بدأ ذلك الزغب الطري القصير يكسو شفتي حسن، أخي الصغير، و بدأ صوته يكتسب حشرجة محرك سيارة قديم توطئة ليتحول إلى صوت غوريلا إفريقية كما جرت العادة دوما. لقد أصبحت حياتي فجأة عبارة عن محاولات بائسة للتخلص من الملاحقات البوليسية التي يفرضها علي الوغد الصغير كأنني سر قومي وجب الحفاظ عليه. المشكلة هي أن هذا (المفعوص) يشاهد العديد من الأفلام البوليسية الرخيصة التي لا نفع لها سوى أن تزيد حياتي تعقيدا و تلهمه أكثر تقنيات التجسس سخافة: إن الفتى الذي يلقي بنفسه في أول سيارة أجرة لتتبع أخته التي ركبت سيارة أخرى قبله، ثم يكتشف بعد ذلك أن لا نقود بحوزته يدفع بها ثمن المشوار، لهو في مشكلة حقيقية.. و حينما يأتي به شرطي بقفاه إلى البيت ليسمع أبي كلمات سخيفة عن الفتى الذي لم يربى بعد، والذي سيتكفل السجن بتربيته يوما، ما لم يتم الاهتمام بسلوكياته أكثر، حينها فقط يمكنك أن تفهم حجم المشكلة..

طبعا سيتلقى الشيطان الصغير علقة ساخنة، و هو يحاول أن يقول شيئا عن الفتاة التي لم تلق تربية كافية، و تتجرأ –تصوروا –على ركوب التاكسي وحيدة مع السائق الذي هو بالمصادفة وحش آدمي. إلا أن أذني أبي لم تكن حينها تنصت سوى لبقايا عبارات الشرطي الجارحة عن فشله في تربية ابنه. إن أبي يتحول إلى وحش كاسر في هذه الحالات بالفعل، وقد احتاجت أمي إلى ما هو أكثر من التوسل والتهديد كي توقف عملية إعادة تلوين الجلد التي كان يمارسها على الفتى.

كان عقابا أشد قسوة مما يجب بالفعل. فالصبي كان مشدودا فقط بالحركات السينمائية الدرامية و لم يقدر العواقب فقط. إلا أن هذه الشدة أرضتني نوعا. على الأقل سيشفيه هذا العقاب من مرض الرجولة المبكرة و الخوف الهستيري على شرف العائلة الذي و لابد لفتاة، كما يعتقد، أن تدنسه.

إلا أن المسلسل العربي لم ينته بعد للأسف. ويبدو أن (العلقة) كان لها تأثير المنشطات على نشاطات الفتى. فقد أصبحت أشاهد قفاه في كل مرة ألتفت فيها إلى الخلف في شارع ما. المشكلة انه ينفي ذلك دوما حينما أشكوه في البيت و كأنه يتصور أنني لن أتعرفه لمجرد أنه يلتفت متظاهرا بالمشي في الاتجاه المقابل كلما فاجأته بنظرة خلفية.. إما أن هذا القرد الصغير يظن أنني أضعف بصرا من بقرة حلوب لمجرد أنني أضع نظارات، أو أنه – وهذا هو الأرجح- يتمتع بعبقرية غباء غير محدودة. و هذا ما أكدته لي آخر تجربة لي معه حينما التفتت بسرعة كبيرة لم تسمح له بالاختباء، و ما كان منه إلا أن أغمض عينيه كي لا يراني متصورا أنني لن أراه أيضا.

وفي يوم من الأيام دخل حسن على والدي وهو يحاول أن يرسم على ملامحه خطورة الدنيا والآخرة، وكدت أرى لوزتيه و هو يصرخ أنني عديمة التربية و أنه رآني مع رجل في الحي أبتسم له في حياء. فما كان من أبي إلا أن مارس لعبة قلب السحنة التي يتقنها بشدة. و التفت ناحيتي و الشرر يقدح من عينيه قبل منخريه.. و لما أبديت استنكاري الشديد وأنكرت كل ما قيل التفت إلى الصبي يسأله عن التفاصيل. فأخبره الفتى بأن الحكاية حدثت أمس على السادسة مساء.. حينها كدت أفقد أعصابي وأتحول إلى سفاحة.. ففي الوقت الذي يتحدث عنه كان الشخص الذي يقف معي هو حسن نفسه ببساطة شديدة.. والفضيحة العظمى هي أنه أجاب بعد أن رميت بدفاعي قائلا: ” وماذا في ذلك؟ أو لست رجلا أيضا؟”. يومها تيقنت أن الصبي مجنون تماما وأنه كارثة قومية وجب التخلص منها صونا لمستقبل المجتمع المدني..

لقد طفح الكيل، و لم تعد لدي أعصاب تتحمل.. أصبحت أرى حسن في كل مكان.. حينما أتطلع إلى المزهرية أرى رأسه يبرز من بين الزهور.. حينما أفتح الصنبور أرى مخاطه يسيل بدل الماء، و أرى الصنبور بأكمله قد تحول إلى تشكيل أشبه بأنف القرد خاصته.. حينما يلتفت المحاضر ليكتب شيئا على اللوح أرى المصيبة الصغيرة يمسك بقفا بذلة الدكتور بيد واحدة، ويتدلى إلى الأمام و قدميه مثبتتان على ظهر الرجل بأسلوب طرزاني شهير.. خلاصة الأمر، لقد بدأت أصاب (بحسنوفوبيا) أو جنون اضطهادي انعزالي، أو أي اسم من تلك الأسماء العجيبة التي يغرم بها علماء النفس المخبولين. ولم يكن هناك بد من وضع حل لهذه المعضلة.

كانت الحلول المطروحة من شاكلة الدفع من عل، أو القتل بالسم، أو بمسدس كاتم للصوت والصورة.. وكان الحل الأكثر إغراء و الأقل تكلفة هو خنق أنفاس الفتى بمخدته و هو نائم.. إلا أنني أحجمت عن هذه الأفكار لأسباب أخلاقية واقتصادية واجتماعية لا تخفى على أحد. لكن الفرج أتى أخيرا في شخص ذلك الفتى الخجول الودود، الملقب بالمعلم فتحي، الذي طالما رمقني من بعيد كلما خرجت أو دخلت إلى البيت.. لم يحاول أن يحاول أن يكلمني يوما.. كانت نظراته فقط تقول كل شيء دون أن يحتاج لنطقه. لحسن حظي أنه من عائلة محترمة لا بأس بنفوذها المادي. نفوذ من النوع الذي تشم رائحته في اللحم الطازج الذي تعج به محلات الجزارة التابعة لهم، والمواجهة لبوابة بيتنا. هذا ييسر كل المعوقات للوصول إلى رضا والدي طبعا.. ولحسن حظ الفتى أن الصبي المفعوص لم يلاحظ يوما نظرات الإعجاب تلك، و إلا لكانت زيارة والديه اليوم إلى بيتنا لطلب يدي ستتحول إلى زيارة إلى مستشفى المجانين حيث كان سيضمن إقامة مجانية مريحة لمدة طويلة.

كان يوما عالميا في بيتنا. العريس المنتظر سيحضر اليوم. والخوف كل الخوف من حسن وما يمكن أن يسببه من مشاكل تتنوع بتنوع عدد شعيرات شاربه. لذا فما كان من والدتي إلا أن أعطته بضع دراهم كي يذهب ويحيل حياة صاحب إحدى صالات اللعب إلى جحيم كالعادة. إلا أن الوغد الصغير فاجأنا و هو يطرق الباب متقدما العريس المنتظر وأهله، و على شفتيه أشنع ابتسامة ود يمكن رؤيتها. وكادت والدتي يغمى عليها و هي تتخيل عدد الفضائح التي خرجت من فيه القرد الصغير في الدقائق التي قضاها من أهل العريس. أما والدي فما كان منه إلا أن دعا أهل العريس للدخول وهو يحلف أغلظ الأيمان في سره أنه و لا بد فاتك بالصبي لو سبب أية مشاكل.

و لم يخب ظن الاثنين. فما أن بدأ الحديث حتى سأل أهل العريس عن مصير الخطيب السابق الذي هو بالمصادفة سائق التاكسي الذي أقلني حينما تبعني حسن. فأسرع يهتف أن لا وجود لخطيب سابق و لا سائق تاكسي ولا عربة خيول حتى.. و لكن عدم الاقتناع بدا على محياهم جليا واضحا.. فعقلهم لم يتصور وجود عقلية ابتكار فذة كهذه لدى صبي في مثل عمر حسن. لذا فقد افترضوا سوء النية من البداية و ساءتهم محاولة مداراتنا للحقائق التي لا يستطيع الصغار إخفاءها، و خصوصا أن القرد الصغير أخبرهم بأن والدته لا تريد منه أن يحضر اللقاء، و أعطته نقودا لذلك.. فماذا سيظنون في فتاة كهذه بعد كل هذا؟

و هكذا ترون أن حلم العمر الفتى الودود (سي فتحي) قد طار و طارت معه أحلام الزواج إلى غير رجعة بسبب مفعوص صغير لم يعد كذلك بعد أن حوله أبي إلى خردة تصلح للبيع كقطع غيار آدمية..

آه.. نسيت أن أخبركم شيئا في البداية.. أنا نادية.. فتاة ملفوفة القوام، عمرها أربعون سنة فقط و مثقفة حيث أنها تتم دراستها بالجامعة.. و والله بنت حلال.. و حتى أخي سأرميه من الشباك بمجرد أن يقترب أحدكم من بوابة البيت.. انووا انتم فقط و توكلوا على الله..

14 تعليق

البريء متهم وإن ثبتت براءته!

تتقلد أجهزة المخابرات في العالم أجمع مهام الدفاع عن الوطن ضد المؤامرات الخارجية، كما تصنع لنفسها قاعدة عمل من عملاء وجواسيس تضمن من خلالهم مراقبة المتغيرات الدولية السرية وتجهيز ردود أفعال وسياسة البلد إزاءها.. أما في الدول العربية، فإن عشرة بالمائة من عمل أجهزة المخابرات عمل خارجي، والباقي داخلي..

يمكنك دخول أية جامعة أو كلية عربية، و لو كانت لديك الوسائل الكافية للتحقق، يمكنك أن تكتشف أن نصف الطلبة عبارة عن مخبرين، والنصف الآخر في طور التأهيل ليصبحوا كذلك.. لذا فهناك مراقبون يراقبون عمل المراقبين، وهناك مراقبون يراقبون عمل مراقبي المراقبين، وفي النهاية نجد أن الشعب بأسره يراقب بعضه البعض.. لا زلنا في عصر يخرج فيه طالب متحمس أكثر من اللازم، بعد أن ألقى خطبة سياسية في حلقة طلابية ما، ليجد في انتظاره سيارة أمن مسالمة يعرض عليه ركابها بكل لطف توصيله إلى البيت. ويتغير الوقت الذي تستغرقه (التوصيلة) حسب مستوى حماسة الطالب ودرجة صلابة رأسه.. لكنه في النهاية يعود إلى بيته، لو كان محظوظا، في حالة تجعل التمييز بينه وبين جثة لعب بها طلبة الطب في كلية ما أمرا مستعصيا بالفعل.. لكنك تطمئن إلى أنه لا يزال حيا حينما تسمع صراخه الحماسي: “بالروح.. بالدم.. نفديك يا (…)”.. يمكنك أن تملأ الفراغ بين القوسين بما يناسب.. إن الحلقات الطلابية في ساحات الكليات لنشاط مضر بالصحة حقا!!

لا زلت أذكر فترة كانت فيها التجمعات ممنوعة، وذلك لحكمة أمنية فذة لم يتم ذكرها قط لأنها تندرج تحت بند أمن الدولة.. و الدولة هنا هي كل شيء عدا المواطن. يخيل لي أنه لو دخل أحد رجال الأمن في تلك الفترة إلى حمام عمومي، ووجد الرجال مجتمعين على ساقية المياه بانتظار دورهم لنهرهم وفرقهم بدعوى منع التجمعات.

والظاهرة الغريبة التي استفحلت وخصوصا مع العمليات الإرهابية الأخيرة، هي استغلال الظروف للتخلص من كل المعارضين الذين كانوا يشكلون صداعا مزمنا لرجال الأمن، ووجد هؤلاء فرصة سانحة للتخلص من كل من تسبب في يوم من الأيام بلمس أصبع أحدهم الصغير، ابتداء من الجزار الملتحي الذي خرب بيته بكثرة المصاريف، وانتهاء بأي مواطن يطالب باحترام حقوقه و معاملته بآدمية.. و أصبحت الحكمة الجديدة لرجال الأمن هي: البريء متهم حتى تثبت براءته.

سأحكي لكم قصة حلوة صغيرة كنوع من كسر الروتين: “في إطار مسابقة لتحديد أكثر أجهزة المخابرات والأمن الداخلي كفاءة في العالم، تقدمت الـ(سي آي إيه) والمكتب الخامس و(…) .. يمكنك أن تختار هنا أي جهاز مخابرات عربي يروقك. وكانت المسابقة على الشكل التالي: تم رمي قط ما في إحدى أدغال إفريقيا، وكان المطلوب هو إيجاد القط في أسرع وقت ممكن.. فتمكنت ال(سي آي إيه) من إيجاده في ساعتين.. وتمكن المكتب الخامس من ذلك في يوم كامل.. وانتظر الجميع لأيام دون أن يظهر رجال جهاز المخابرات العربي المتبقي.. وبعد رحلة مضنية للبحث عنهم، ثم إيجادهم في أحد المناطق وأحدهم يمسك بأرنب بري يستجوبه: “هل رأيت القط؟” يومئ الأرنب برأسه أن لا.. فيصرخ الرجل قائلا: “إذن فلتقل (مياو)..”

و هذا بالفعل هو نظام عمل أجهزتنا الأمنية.. إذا لم تجد المذنب الحقيقي، فاشتر لك مذنبا من متجر الشعب..

هذه إذن إطلالة قصيرة من نافذة خفية.. و لنا إطلالات لاحقة..

7 تعليقات

مسار الأف ميل:خطوة البداية (1)

سابقا في مذكرات طالب بالأقسام التحضيرية:
مقدمة مملة لابد منها

تطلعت إلى النافذة الزجاجية.. المشهد شبه الصحراوي.. وتلك الأشجار المعدودة المتناثرة على جوانب الطريق، والتي تسارع بالفرار نحو الخلف كلما طوت السيارة الطريق مخلفة وراءها المدينة صغيرة..
مدينتي.. حيث دفء السرير المألوف يصنع ألف فارق.. حيث أصوات أصدقاء الطفولة والصبى لا تزال تناجيني..حيث كنا نحن.. والآن أصبحوا هم..
متجهين إلى (أكادير)، مدينة الجن والملائكة المغربية، حاولت مستبسلا أن اتحمل أغاني ذلك الشريط الشعبي الذي تصر والدتي على الاستماع إليه كلما سافرنا.. تعرفونه طبعا.. إنه ذلك الشريط الشهير ذو الأغنية الفذة التي تقول كلماتها “وا باغي نتزوج أها.. وحتى تكبر أها.. واباغي نتزوج أها.. وحتى ترجل أها..!!”
أعوذ بالله من الحمق! أيوجد بعد على الأرض من يملك صفاقة كافية ليكتب هذا النوع من الكلمات، ناهيك عن أن يغنيه؟ وحينما أتحدث عن اللحن هنا فهذا تعبير مجازي فقط! تعرفون ذلك النوع من الألحان التي تواكب الإيقاع الشعبي المغربي الأشهر: “واحد- واحد / إثنان- واحد”.. الحقيقة أنه إيقاع يستطيع أن يحرك أطرافك، لو كنت مغاربيا، دون ان تعي ذلك.. لكن ربط كل الألحان به بنفس الطريقة الشنيعة يسبب مللا خرافيا قد يغريك يوما بقطع أذنيك ذاتها كي تكف عن سماعها..
تطلعت بحنق إلى أفراد أسرتي الصغيرة.. أبي و أمي و أختي الصغرى، والخادمة الصغيرة، التي لم تعد كذلك بعد أن أصبحت فردا من الأسرة، والذين يرافقونني جميعا في يومي الأول بمركز الأقسام التحضيرية.. كنت بحاجة إلى سيارة لنقل أمتعتي حقا، ووالدي لوحده كان سيفي بالغرض.. لكن الآخرين أصروا على المجيء معنا بحجة قضاء اليوم بأكادير، وشراء ملابس جديدة للدخول المدرسي لأختي..
فكرت حانقا أنه كان عليهم أن يرسلوا برقيات لأفراد العائلة بالوطن كي نلتقي جميعا هناك بهذه المناسبة السعيدة..
لقد كنت من النوع الإستقلالي الذي يحب أن يعتمد على نفسه، ويكون مسئولا عن كل صغيرة وكبيرة في حياته.. ولكم أكن أدرك حينها أنه سيأتي يوم أصبح فيه مسؤولا عن الدفاع عن حقوق أكثر من أربعمائة طالب بشكل سيجعلني أكره مصطلح المسئولية ذات نفسه (تطالعون التفاصيل لاحقا ب:مذكرات طالب مهندس)..

سرحت بأفكاري بعيدا..
إلى هناك..
مركز الأقسام التحضيرية (رضى السلاوي)..
تقافزت إلى ذهني عبارات من طراز: حصص قد تستمر أربع ساعات متواصلة.. امتحانات كالأساطير.. طلبة لا ينامون قبل الساعة الثالثة صباحا، ويستيقظون قبل السابعة صباحا يوميا.. العديد من حالات الإنهيار العصبي والجسدي.. صوت سرينة الإسعاف مألوف للغاية بالمكان..
أفكار سوداية أخرى من طراز: هل سأتحمل؟ و أنا الذي يجد في النوم بعد منتصف الليل إنجازا يستحق التدوين في موسوعة (جينيز) للأرقام القياسية؟ أنا الذي أعد الدراسة المتواصلة لثلاث ساعات بتركيز عال نوعا من الخيال العلمي؟ أنا الذي أدرس بمعدل عشر دقائق يوميا خارج أيام التحضير للإمتحانات، حيث يصل أقصى معدل إلى أربع ساعات..
ولا بأس ببعض التصورات الكاريكاتيرية من قبيل أسد وديع، كتب فوقه مركز الأقسام التحضيرية، يتسلى بلعق قصبة ساقي على سبيل فتح الشهية.. هكذا تكتمل الصورة القاتمة..
يبدو أن أيامي هناك ستكون حافلة..
حافلة للغاية..

تابع القراءة: مسار الألف ميل: خطوة البداية (2)


14 تعليق

مذكرات طالب باﻷقسام التحضيرية

سؤال وجيه:
ما هي الأقسام التحضيرية لولوج المدارس العليا للمهندسين؟
جواب أكثر وجاهة:
إنها أقسام تحضيرية لاجتياز مباراة وطنية.. وهذه المباراة تخول للناجحين الولوج إلى إحدى مدارس المهندسين بالمغرب.
قد يبدو المصطلح غريبا، إ، لم أقل شاذا، بالنسبة للمشارقة منكم.. وهذا مفهوم في ظل نظام الجامعات الأنجلوساكسوني.. لكن النظام الفرنسي المطبق هنا يعتمد على التخصص.. فالهندسة لا تدرس بالجامعات إطلاقا، و إنما في مدارس متخصصة مستقلة، مما يسمح بالتطور حسب التخصص، وعدم التقيد بنظام تعليمي معمم قد لا يناسب متطلبات كل تخصص على حدة.. وقد أثبت هذا النظام أنه الأنجع بين أنظمة التعليم العالي لحد الآن.

لماذا أتحدث عن كل هذا الآن؟ فقط كي أضعكم في الجو العام لما سأتحدث عنه في هذا القسم إلى أن ينتحر أحدكم أو يتوفاني الله..
سأتحدث عن الحياة الطلابية بهذا المسار الدراسي الذي لم يكن عاديا قط.. و الأهم من هذا أنه لم يكن مملا..
قد يكون خانقا.. قاتلا.. ممتعا.. لكنه لم يكن يوما مملا..
على الإطلاق..
هذا ما ستكتشفونه بأنفسكم لو تابعتم هذا القسم بانتظام..
فقط نصيحة لوجه الله: حضروا جردل مياه، وكيلوغرامين من الأسبرين، أ, الباراسيتامول لو كنت من ضعاف المعدة.. ولا بأس بتشكيلة محترمة من الأقراص المهدئة للعصبيين، و أقراص النيتروجليسيرين لمرضى القلب..

ماذا أيضا؟
آه.. اربطوا الأحزمة، وكفوا عن التدخين!

تابع القراءة: مسار الألف ميل: الخطوة الأولى

تحديث: هذا الموضوع لا يخص الرسائل الخاصة بالأقسام التحضيرية.. أرجو ممن لديه استفسار بهذا الخصوص مراسلتي على الإيميل.. شكرا لكم..

59 تعليق

A FEW GOOD MEN

A FEW GOOD MEN
(1992)

قد يكون دور (دانيال كافي)، خريج جامعة (هارفارد) والمحامي بالقوات البحرية الأمريكية، من أروع الأدوار التي أداها (توم كروز).. وبل ربما أروعها على الإطلاق.. دور منطلق واسع سمح له بإبراز قدراته التشخيصية الفذة التي مكنته من أن يلبس ثوب شخصية متقلبة، رقصت على إيقاعات مختلفة طوال أحداث الفيلم.. وربما يمثل مشهد (دانيال) وهو سكران إحدى أروع لقطات الفيلم، حيث لعب (توم) الدور بحرفية شديدة بعيدة عن المبالغة المألوفة في مثل هذه اللقطات، كتغيير الصوت والترنح وما شابه.. بل، وعلى العكس من ذلك تماما، لعبه على طريقة الشخصية التي لم تفقد اتزانها التام بعد.. فكان طبيعيا في وتيرة حديثه، لكنه تلاعب بالإيقاع والشكل بطريقة أبدت بوضوح أنه غير طبيعي..كل ذلك في قمة الحرفية..

(دانيال كافي).. ابن قاض عسكري شهير توفي منذ سبع سنوات..
اتبع الفتى طريق والده، بل وفاقه حنكة وبراعة.. فبعد أقل من سنة من التخرج والالتحاق بقوات البحرية، كان قد ربح سبعا وأربعين قضية تخفيف حكم عسكري بنجاح تام.. لكن الأمر كان مختلفا هذه المرة.. فالقضية الجديدة التي كلف بها لم تكن ببساطة وسهولة كل ما سبق.. ناهيك عن أنه لم يقف قط بمحكمة ليترافع من قبل..

المتهمان في القضية جنديان من قوات (المارينز) التابعة للقاعدة البحرية (غوانتانامو B ) بكوبا.. والتهمة قتل جندي تحت إمرتهما بمنديل مسموم بعد تكبيله..

(جوهان جالوي)، محامية أخرى بقوات البحرية، كان عليها أن تتحمل التعامل مع (دانيال)، بعد أن رفض المسئولون تكليفها بالقضية. وقد أدت الدور الممثلة (ديمي مور) التي أصر لسبب ما أنها (كاترين زيتا جونز) فقط، وقد تلاعبوا بمكياجها قليلا كي تبدو بهذ الصورة..

ماذا سيكون انطباع (جوهان) عن محام شاب حديث التخرج، دخل عليها مكتبها وهو يقضم تفاحة طازجة، ويرافقه مساعد يخبره دوما بالتفاصيل التي يجهلها، وهذا ما يحصل طيلة الوقت؟ شخص يصل زبوناه صباحا إلى السجن في الوقت الذي يكون فيه مشغولا بالتدريب على (البيزبول).. لذا لم يكن منها إلا أن حصلت على توكيل من القريبة الوحيدة لأحد الجنديين بالدفاع عنه، مما جعلها و (دانيال) في سلة واحدة رغم أنفه.

يتضح فيما بعد أن الحادثة كانت غير مقصودة، و أن الهدف الوحيد للجنديين كان تأديب العسكري المتوفي بأمر من الجنرال (نيتون جيسوب) قائد قوات (المارينز) بالقاعدة..
ويسقط (دانيال) في فخ إثبات الحقيقة في ظل سلطة الجنرال الواسعة، ومكانته السياسية المرتقبة..
وكان الصدام الأول بين فريق المحاماة والجنرال الذي أدى دوره (جاك نيكلسون) باقتدار شديد، مثيرا بحق.. حيث ظهرت سلطوة الجنرال واعتزازه بنفسه، واقتناعه السايكوباثي بأنه حامي حمى البلاد من الخطر الكوبي..

وتبدأ لعبة المحاكم.. ووسط ضعف أدلة النفي، وموقف الجنديين الحرج تبرز موهبة (دانيال كافي) في التلاعب بمشاعر الجميع، بطريقته الفذة في المرافعة، وحس الفكاهة الذي لا يعوزه في المواقف التي تحتاج ذلك.. وفي النهاية يضطر إلى استدعاء الجنرال شخصيا للشهادة رغم عدم توفره على الأدلة الكافية لاتهام شخص ذو رتبه عسكرية رفيعة، وهو ما قد يؤدي إلى متابعته قضائيا بسبب اتهام غير مبني لضابط رفيع.. فماذا يحدث بعد ذلك؟ يمكنكم أن تبحثوا عن الفيلم لو كنتم مهتمين!!

الفيلم يجسد بوضوح الفرق الخطير بين تنفيذ الأوامر العسكرية و بين الإنصات إلى الضمير.. صراع مبادئ، حيث تصطدم قيم الشرف والرموز العسكرية بالقيم الإنسانية..
قصة وسيناريو ممتازان، واختيار موفق للمثلين الرئيسيين، والذين دعموا بممثلين مساعدين أكفاء من طراز (كيفين بولاك) و (كيفين باكون) و (كيفر ساذرلاند) الذي لمع بسلسلة (24h Chrono).. ناهيك عن مخرج متميز ك(روب رينر)، من النوع الذي يعطي الممثلين حرة وانطلاقا كبيرين لإبداع الشخصية التي يلعبونها..

الخلاصة: فيلم يستحق المشاهدة..

5 تعليقات

أيها الشعب المطحون.. المرض ممنوع !

حينما تقرر أن تمرض في هذه البلاد السعيدة دون أن تكون ابن فلان أو أن تكون فلانًا ذات نفسه، فإن ذلك يكون غير صحي بما تحمله الكلمة من معنى..

بداية، يستقبلك حارس بوابة المستشفى الحكومي بأشنع تكشيرة دبلوماسية ممكنة! ولن تفتح لك البوابة قبل أن تشرح له دوافع زيارتك الموقرة للمستشفى محاولاً إقناعه أنك مريض حقًا ولست هناك للسياحة أو لركوب الخيل قطعًا.. هكذا تروي ظمأ الشعور بالأهمية لديه..

تجتاز اختبار القبول بنجاح، وها أنت تتقدم غير عالم بأن ما ينتظرك هو الأشنع.

يستقبلك ممرض الاستعلامات.. وكأي ضابط استجوابات محنك، يسأل عن اسمك ومهنتك ومحل إقامتك، وربما يطلب بطاقة هويتك للتأكد من أنك أنت ذات نفسك ولست آخرًا.. حاول أن لا تنسى أن تسأله عن وجهتك لأنه لن يفعل بالتأكيد، بل يكتفي بإعطائك ورقة عليها رقم ما ويتركك تحاول استنباط العلاقة الرياضية الفذة التي تربط بينه وبين المكان المراد التوجه إليه..

ورغم توجيهات الاستعلامات الوجيهة، لا مفر لك من الضياع وسط الأروقة المتشابكة كأي متاهة تحترم نفسها. والمشكلة في الأمر أنك طيلة فترة البحث في الأروقة قد لا تصادف ممرضًا واحدًا ينير عتمة مسارك المجهول.

وبعد أن تغرق في التوغل في مجاهل إفريقيا تلك، ستنتبه حتما بعد فوات الأوان إلى تلك العلامات و العبارات الموجهة التي تذكرك بالطرق السيارة :

مختبر.. (للفئران قطعًا)

غرفة العمليات.. (عمليات النصب و الاحتيال قطعًا)

مركز تحاليل الدم (حيث ستجد مصاصي دماء بالتأكيد)

ولا تفاجأ إن وجدت علامة تقول: احذر التساقطات الصخرية على حافة الطريق.. فكل شيء مقبول في مثل ذلك المكان.

تصل أخيرًا أمام غرفة الطبيب العام، وهناك من المؤكد أنك ستجد الشعب كله بين الجالس والواقف بانتظار الدور.. تقف بدورك، و بمرور الوقت تجد نفسك جالسا فوق شي ما لا تدري كنهه.. ربما هي الأرضية الباردة .. تنام، وتستيقظ.. بجانبك امرأة حامل.. تضع حملها.. يكبر الطفل..يلعب بجانبك و أنت تتثاءب بملل..

أخيرًا يأتي دورك.. لا تدري كم قضيت في هذا المكان لكنك داخل غرفة الطبيب أخيرًا..

يسألك بضجر: ماذا لديك؟

تجيب: لدي حمى و غثيان و أحيانًا أشعر بـ…

يقاطعك أن “اصمت فقط فهمت”.. فهم ماذا من مجرد كلمتين؟ هذا ما يعلم به الله فقط.. يكتب فوق ورقة الدواء تشكيلة متنوعة من الأدوية.. تشكيلة كافية لعلاج نزلاء مستشفى كامل على ما يبدو..

تتذكر قول صديق لك في ميدان الصحة: إن الأطباء لا يعطونك الدواء الأرخص أو الأكثر مناسبة.. بل يعطونك الدواء الذي يرون وجه ممثل شركته بكثرة، حيث يتلقون المزيد و المزيد من العينات، والمزيد من الهدايا كالأوراق والأقلام و ما شابه، بمجرد أن يرسلوا المزيد والمزيد من المرضى المطالبين بنفس الدواء في الصيدليات..

تتوجه لأقرب صيدلية.. وبمجرد أن تطالع فاتورة الأدوية التي ستقـتـني سوف تشعر بالتحسن بالتأكيد.. وستتأسف عن عدم أخذك للدواء لأن الحاجة إليه انتفت..

لقد أصبحت منيعًا ضد جميع الأمراض..لن تمرض بعد الآن..

هذا وعدّّ

3 تعليقات

داء الشعر والخاطرة..

كل من يراك جالسا، والقلم والورقة بين أناملك، يبتسم..
ربما بإعجاب.. وهذا نادر..
ربما بسخرية.. وهذا وارد..
ربما بمزيج منهما.. وهذا الأرجح..
ثم يقترب من مجلسك ليتحفك بالسؤال الكلاسيكي المحتم:
-“شعر؟”
فحسب تصور الزملاء الأفاضل، كل من يختلي بنفسه، أو الأشنع من هذا يجلس بمقهى كي يكتب، فهو حتما يكتب شعرا.. هذا لو كان ذو مكانة رفيعة.. و إلا فمن المؤكد أنه يكتب خاطرة.. وهذه مكانة أوضع..
هكذا تنقسم الأجناس الأدبية في التفكير الطلابي المتداول إلى: شعر أو خاطرة..

لست أدري هل تساءل أحدهم يوما عن مصدر ما يقرؤونه أو يسمعون عنه من قصص أو روايات أو مقالات؟
برأيي كتابها أشخاص عاديون مثلي ومثلك.. لا يطيرون، ولا تخرج النيران من أنوفهم مثلا.. فما المانع من أن تكون أحدهم؟ أحد أولائك الخرافيين الذين يستطيعون تحقيق معجزة إنتاج شيء آخر غير الخواطر والأشعار..

الحقيقة أن الشباب معذورون.. ففي الوسط الطلابي، أغلب من يكتب أو يدعي الكتابة، فهو ينتج أحد هذين الجنسين الأدبيين..
أنا لا أبخس الشعر قدره مثلا، لكنني أجد ان أغب من يدعون كتابته هم مجرد متحذلقين لا يستطيعون حتى ضبط الموسيقى الشعرية كما يجب.. فلا هم يكتبون شعرا حرا، ولا هم يكتبون شعر النثر.. إنهم في برزخ ضائع بين الإثنين..
أما الشعر العروضي، فلم يعد أحد يتحدث أصلا، في الوسط الطلابي، عن إنتاجه منذ مدة لا بأس بها.. وفي نفس الوقت، قليلون هم من يجسرون على اقتحام عوالم القصة القصيرة، ناهيك عن الرواية.. أما المقالات، فيمكنك مسحها من خريطة التفكير بضمير مرتاح، اللهم إلا من رحم ربك ممن أتيحت لهم فرص أجبرتهم إجبارا على كتابتها لهذه المجلة الطلابية أو تلك..

لهذا أقولها عالية:
شباب.. أنا أكره كتابة الشعر..
ربما اكتب خواطر وهذا نادر..
لكن حينما تجدونني جالسا أكتب، أرجو فقط ان ترحموني من ذلك السؤال الكوني.. وكونوا على يقين أنني أكتب أي شيء عدا الشعر..
قصة قصيرة.. رواية.. مسرحية.. مقالة..
اختاروا ما تشاؤون..

6 تعليقات

عن!

يبدو أنه من المحتم أن يكتب كل مدون في صفحة سيرته الذاتية أشياء من قبل أنه يكره هذه الصفحة ولا يجد لها معنى أو فائدة.. ولكنه مجبر على كتابتها لسبب من الأسباب، أو لأن الضرورة تحتم ذلك، أو أي خزعبلة من هذا القبيل..
لذا فأنا لن أحدثكم عن نفسي هنا كنوع من التجديد.. سوف أتحدث عن برنامج جديد فقط:

عصام إزيمي 1.0

الإصدار الأول والأخير من هذا المخلوق غريب الأطوار..
نسخة 01 فبراير 1983 بمدينة تيزنيت.. المغرب

المميزات:

– غير قابل للنسخ أو القرصنة.. فهو، على كل حال، عبارة عن برنامج مجاني (Freeware)..
– يدعم اللغة العربية والفرنسية.. وبشيء من التسامح يمكنه أن يقبل الإنجليزية..
– مهندس دولة تخصص معلوميات..
– يلقبه بعض أصدقائه ب”قلم الرصاص ذو الممحاة”.. وهو اسم أثير لديه، لكنه مقتصر على أصدقاء النت..
والسبب في هذه التسمية أنه إنسان ذو بعد وحيد: ارتفاع فقط..
– هو عبارة عن مجموعة مشاريع وأحلام يحتاج تحقيقها إلى خمس حيوات لا واحدة: مشروع مخرج سينيمائي.. مشروع عازف ملحن.. مشروع روائي.. مشروع مصمم (ليس على الإنتحار طبعا)..مشروع ممثل مسرحي (…)
– مقيم حاليا بسيرفرات الدار البيضاء..

هممم.. ماذا أيضا؟
قد أعود بالجديد لاحقا..


8 تعليقات

لمحة من عذاب..

نادرة هي القصص القصيرة التي كتبتها.. ربما لأنني ثرثار كبير يميل إلى التطويل والطابع الروائي، وهو الشيء الذي لا تتيحه القصص القصيرة التي تحتاج إلى تكثيف بالأسلوب والمعنى..
فقط تبقى هذه القصة من العمال الأثيرة لدي.. الأثيرة جدا
!!

——————————————————————–

إن البياض يخنق البصر على مدى الأفق. و الحيرة تسد أنفاق الأفكار..
رداء أخضر طويل يكسو الأرض حتى الأفق، و حملان تحاول أن تطاول بأنوفها السماء..
حيث الحمام يفرد أجنحته أسرابا تطغى ببياضها على زرقة السماء..
ابتسمت ساخرا.. كيف تراقب الحملان الحمام و تهفو إليه و الذئاب بجانبها تتربص حينا، و تطبق على كواحلها أحيانا.. بل و يختفي بعضها بين الفينة و الأخرى تحت غياهب الأنياب و الآخرون لا يزالون مبتسمين للحمام..
أدرت ظهري للمشهد الأزلي الساخر، و رنوت إلى ذلك المبنى المنزوي و حيدا في ركن الشارع وقد دعاني إليه سكونه..
في إحدى الغرف استقرت براءة الربيع غافية بسكينة.. طفل لم يجاوز بعد ربيع عمره الثامن مسحت ملامح براءته سموم ذكرى الذئاب.. تطلعت على جفنيه المسدلين، وتمنيت لو أوقفت الزمن فوق المشهد ما حييت.. لكنني لم أملك سوى مداعبة خديه بأشعة الشمس البكر الوليدة، دافئة متسللة من خصاص النافذة. انكشف سواد العينين الصافي عن بياضهما الناصع، و حملني سحر نقاوتهما أميالا جاوزت كل كرب الدنيا وتعاستها…
تدفق الحبر من جديد، فاخترقت امرأة جزعى الغرفة. و لم تمهل الصغير فرصة الاحتجاج أو الصراخ، بل اختطفته من فراشه و هي تثبت خمارها فوق خصلات شعرها المتناثرة. انفتحت البوابة بعنف مزق صفحة الهدوء الذي لف المكان منذ لحظات.. و فتح الصبي عينيه الناعستين على أجساد ضخمة ببذلها الخضراء و أسلحتها السوداء، و صوت أحدهم يجلجل في أذنيه..
كان هناك الكثير من الصراخ و العويل من طرف المرأة، لكن الجندي لم يمهلها، و رمى بها و بحملها خارج البيت وسط دموع أغرقت وجنتيها و قلبها معا..
لم يفهم الصبي قط.. قالت له أمه ذات يوم أنهم يستولون على الأراضي.. أنهم يهتكون الأعراض.. أنهم يسلبون البيوت. و لم يفهم حينها ما تعنيه.. فهل هؤلاء يدخلون في نطاق “هم” تلك؟
التقطت مقلتاه فجأة مشهد الآلة الضخمة التي بدت كوحش أسطوري، و شدت انتباهه حركة تلك الكرة الحديدية العملاقة المعلقة في مقدمتها بسلسلة فولاذية ضخمة.
ثم هزت الصفعة كيانه.. كانت أول مرة يشاهد أمه تصفع… تطلع إلى الخمار المتطاير حتى استقر أرضا، فاتجه نحوه و هو يمشي الهوينى و نحيب والدته يخترق أذنيه كآلاف القنابل التي تنفجر في ذهنه العاجز عن الفهم.
كم يفتقد أباه الآن و هو يتذكر ذلك اليوم الذي عانقه فيه بحرارة غير عادية.. و خرج و لم يعد بعدها.. أمه تقول أنه استشهد… و كلنه لم يستوعب المعنى قط. كل ما اكتشفه مع الوقت هو أن أباه لم يعد معهما، و اختفى إلى الأبد.
حمل الخمار، و دثر به شعر أمه المكشوف..
اتكأت على نصف جدار مهدم و أنا أراقب المشهد من بعيد.. و كانت الحملان قد انتبهت للمشهد بدورها.. فأطلقت ثغاء استنكار و شجب قوبل بابتسامة ذئبية واضحة الأنياب..
ابتسمت متهكما بدوري، و غضضت البصر و السمع عنها كما فعل الجنود.. وواصلت أرجحة القلم للتتواصل أرجحة الكرة الفولاذية استعدادا لتحيل البيت إلى أنقاض..
حملق الطفل فيها لوهلة.. حملق في الجنود المقيتين.. رمق الحجارة المتناثرة.. والبقية خلاصة فقدان كرامة..
عين تنزف دما أسود.. ثور هائج ذو خوار يطارد طفلا صغيرا.. يمسكه من تلابيبه و يرفعه عاليا، و يحمل خنجره ..
تشد صرخات زملائه انتباهه و دهشته.. ثم يكتشف مصيره مع صرخات الأم الملتاعة، ومع صوت الكرة الفولاذية التي وقف في مسارها عن غفلة منه.. الكتلة المدمرة على بعد سنتيمترات من الثور و الطفل في يده، و… وكف قلمي عن الكتابة ليتجمد المشهد..
تحركت في الساحة و حيدا.. و حتى الحملان كفت عن ضجيجها المستنكر كالعادة.. حملت ملامح الأم كل خلجات الفزع و اليأس.. و حملت ملامح الجنود رهبة لا تدانيها رهبة.. و انقلبت سحنة الثور لتناسب طابعه.. أشبعت رغبة التشفي الكاملة في ملامحه المرعوبة لهنيهة، ثم شدتني ملامح البراءة من جديد.. براءة لا تدري مصيرها المحتوم..
أطلقت زفرة حيرى.. هل يجوز لدماء الطهر الاختلاط بدماء الفساد؟
من المعهود في مثل هذه المواقف أن يقفز بطل ما من مكان ما لينقذ الموقف في آخر لحظة.. لكنني لم أكن من هواة الخيال العلمي للأسف.. شعرت بحرارة الأفكار تلهب ثنايا دماغي.. و صارعت الأنفاس المحمومة لتغادر سجنها الصدري. فرميت بالقلم في الهواء، و أعملت رأسي تحت صنبور المياه الباردة عساه يطفئ نار غضب مستعر.
تطلعت للقلم المتحدي من جديد.. استشعرت سخريته و هو مرمي أرضا.. إنه يهزأ من ضعفي.. و بياض الورقة يسخر من نفسه.. فحملت القلم بأصابع مرتجفة من جديد، وكتبت عبارة: تمت بحمد الله

2 تعليقان

خالف تعرف!

من المفترض أن يكون هذا باباً ساخراً.. لكنني أكره دخول البيوت من أبوابها.. لأن هذا يكون غير صحي في أغلب الأحيان كما تعلمون.. لا أحد يدخل بيت أحدهم من بوابته ليسرق أسراره ويفضحه على الملأ.. لذا فالدخول السري من النافذة يناسبني أكثر.. هذه إذن نافذة ساخرة.. والنافذة الساخرة غير النافذة الكوميدية.. فمن كان يتوقع أن ينقلب على ظهره من الضحك فلن يجد ضالته هنا.. لأن الواقع أشبه بكوميديا مبكية أكثر منه بكوميديا مضحكة.. فلنطل معا من النافذة ولنسترق الرؤية..

– – – – –

إن لنا فلسفتنا الخاصة في الحياة: فلسفة خالف تعرف!

نحن نسعى إلى الاختلاف بأي شكل من الأشكال! أن نتملص من كل ما يمكن أن يلصق بنا شبهة تقليد الغرب.. كل هذا جميل ورائع.. و لكن الأكثر روعة هو أننا تمادينا في الأمر بشكل مفزع.. فقد نجحنا في تفادي تقليدهم في كل شيء إيجابي وتمسكنا بالسلبيات فقط.. الدنيا انقلبت عندنا رأسا على عقب.. فأصبحت الكتب المدرسية تستعمل كلفافات لبيع الفول السوداني بدل الدراسة.. وأصبحت الخزانات العامة ملتقى للعشاق.. عشاق أي شيء غير الدراسة طبعا.. وأصبحت الموبايلات تستعمل كأدوات زينة تعلق على الصدور كقلادات.. أما الطامة الكبرى، فهي أنهم أصبحوا يكتبون على علب السجائر: التدخين مضر بالصحة!!!

كل شيء أصبح مقلوبا ويسير بعكس الهدف المرسوم له.. خالف تعرف..

لقد بدأت الحياة تمزح معي في الآونة الأخيرة، فأشاهد مشاهد كاملة مجنونة وأنا جالس في مكاني.. لقد أصبحت أخرف.. أعيش في عالم معكوس.. معكووووووووس!!!

* * *

الطبيب يعطي لمدخن متمرس كتابا عن مساوئ التدخين وأخطاره، وحينما يقرأ المريض الكتاب ويعيده إلى الطبيب يسأله هذا الأخير عن رأيته بما قرأه وما قرر أن يفعل، فيجيبه المريض انه صدم بالفعل لما كتب في الكتاب، لذا قرر أن لا يقرأ مرة ثانية بحياته..

* * *

خالف تعرف..

* * *

أنا بحاجة لمجموعة من الوثائق لتتمة ملف خاص.. الموظف المسئول يطلب مني شهادة الحياة.. شهادة الحياة!! وهل تحتاج شهادة أكثر من وقوفي أمامه؟ أم تراها جثتي من تتحدث؟ أبتسم في تهكم.. إذن فعلينا بإحضار شهادة الحياة.. أخشى فقط أن تحتاج شهادة الحياة إلى إمضاء اثني عشر موظفا كالعادة.. والطامة الكبرى هي أن يحتاج كل منهم على شهادة الحياة كي يثبت أنه من ختم الورقة وليست جثته من فعل.. وهكذا سيحتاج كل من الاثني عشر موظفا إلى اثني عشر موظفا.. وهكذا دواليك!! ولكن ماذا عن آخر اثني عشر موظفا في الحلقة الكبيرة؟ من سيثبت أنهم أحياء..

* * *

حينما تمزح معك الحياة، فإن حجز سرير مريح في أقرب مستشفى للأمراض العقلية يصبح ضرورة ملحة..

أنفصل عن العالم.. أتوه في دوامات تتقاذفني بين وهم شاحب ووهم بين.. وأستيقظ دوما على صوت ضحكات الحياة الجذلة معلنة عن نهاية الدعابة.. أ ربما عن بداية أخرى..

* * *

صراخ جنوني من حنجرة تحاول الاعتزال.. أسنان قاضمة مستعدة للإطباق على كل شيء وأي شيء، ابتداءً من منشفة ملفوفة بشدة، وانتهاء بيد زوج بائس لم يعي خطورة الاقتراب من زوجته وهي تعاني من آلام المخاض.. إن أسرع رقم هاتف يمكنك أن تحفظه هو رقم الإسعاف.. وأسرع رقم هاتف يمكن أن تركبه هو رقم الإسعاف.. لكنك حتما سوف تدفع ثمن هذه السرعة غاليا وأنت تنتظر وصول سيارة الإسعاف ذاتها..

وفي غمرة معاناة الزوجة، فإن الطفل ولابد خارج إلى الحياة.. خروج غير معتاد بالتأكيد.. ويعيش الفتى طفولة بائسة.. فأمه مشغولة عنه دوما.. لم تلاعبه كباقي الأطفال.. لم ينعم بتواجدها لتغير حفاظاته الغارقة في مستنقع آسن.. لم ترافقه ككل الأطفال في أول يوم دراسة. ولم تمسح دموعها حينما حصل على شهادته الدراسة الأولى.. ولا حينما تم قبوله في مباراة لاختيار سائقي سيارات الإسعاف..

نعم.. إن الفتى الآن خارج في مهمة معتادة.. إنها آلام المخاض التي لا ترحم..

لقد وصل الفتى ليقل أمه التي لا تزال تعاني من المخاض.. إحساس غريب حقا.. أول نظرة يلقيها على أمه.. إنه أول شخص يحضر ميلاد نفسه.. وياله من شرف.. إن خدمة الإسعاف لسريعة حقا!!

* * *

بدأت أمل هذه المشاهد المتكررة حقا.. لكنها تطل بي على نوافذ الحياة بشكل لم آلفه.. لذا فلأستمتع بهلاوسي

5 تعليقات