ستدرس حتى تصاب عيناك بالحول.. وفي الطريق تضع زوجا من النظارات الطبية لتصبح بأربعة عيون حولاء.
شيئا فشيئا ستركز على دراستك أكثر.. وفي الطريق ستسقط كل الهوايات والمواهب التي جعلت منك إنسانا مختلفا يوما ما.
ستتخرج بشهادة ما.. وستجاهد ككل زملائك لتجد وظيفة ما بمكان ما.. الوظيفة تكفل لك الأمان والاستقرار.. هكذا علمك المجتمع، هكذا وجدت أقرانك.. هذا ما وجدت عليه آباءك.
ستخلص في عملك، وستضيف الساعات، وستزيد من مهامك، وستحسن من مردوديتك.. هكذا ستضيف إلى راتبك الشهري بعض العلاوات التي لا تساوي جزءا من الألف مما أدره نشاطك. لكنك ستفرح بالعلاوة لأنك لم تكن تتوقعها.. وستزيد من ساعات السهر، ومن الإنضباط، ومن الإتقان، لعل العلاوة تتضاعف المرة القادمة.
ستبحث عن فتاة ما، في مكان ما.. قد تكون حولاء هي الأخرى فتقبل بك. ستدفع كل مدخراتك في حفلة زواج لا معنى لها، وستعود بعد ذلك من مدينتك الأم بسعيدة الحظ التي لم تكتشف بعد أنها تعيسته. حينها ستكتشف أن راتبك سينكمش تلقائيا عكس ما كنت تظن..
ستبحث عن شقة للكراء بثمن مناسب.. ثلاثة أضعاف أو أربعة أضعاف نصيبك في الكراء في الشقة التي كنت تتقاسمها مع أصدقائك.. ستدفع للوسيط (السمسار) شهرا من الكراء، وستدفع لصاحب الشقة ثلاثة أشهر كضمان.. حينها ستكتشف حجم الورطة.. أنت بحاجة إلى زيادة في الراتب. وفوق هذا قد تكتشف أنك سعيت إلى تهلكتك دون مكابح..
ستسمع أن هنالك مذبحة تجري في غزة، وستقوم بدورك الأزلي في التألم والتعبير عن السخط.. ولربما خرجت في مظاهرة أو اثنتين.. ثم تعود إلى بيتك شاعرا بالرضى لأنك أديت واجبك في الحياة. وفي كل مناسبة مماثلة تمارس دورك بالصراخ على المجموعات البريدية.
كل صباح ستجول على النت قبل أن تبدأ عملك.. ستبحث عن أخبار تربطك بعالم الواقع.. ستقرأ الكثير من الهراء.. ستكتشف أن المستوى الصحفي ببلادك لا يرقى حتى إلى مستوى الهواة (إلا من رحم ربك).. حينها ستبحث عن صحافة حقيقية بجرائد حقيقية ببلدان حقيقة.. ستعيش معهم آمالهم، وتقرأ معهم معاناتهم.. وستعلم عن أوضاعهم الداخلية أكثر مما تعلمه عن أوضاع بلادك.. وستشكر الأنترنت.
ستسمع عن المصائب التي تتناثر هنا وهنا، وستحمد ربك لأن كل هذا يبدو بعيدا جدا عن حياتك الصغيرة المقتصرة على وظيفتك وبيتك.
ستعيش دوما على هاجس المستقبل الأفضل، وأنك يوما ما ستحقق كل ما تطمح إليه. يوما ما ستنشىء شركتك الخاصة، ولن تبقى عبدا براتب كبير. إن أسوأ يوم يمر عليك وأنت رب عملك أفضل من أفضل يوم يمر عليك وانت مجرد موظف عند غيرك.. ستؤمن بهذا المبدأ كثيرا، وحينما تصل سن التقاعد ستنظر خلفك غير مصدق أن كل ما عشته كان مجرد وهم، وأنك رزحت تحت خدر الوظيفة والاستقرار . هذا إن وصلت هذا السن دون أن تصاب بالعمى أو بالشلل أو بالعصاب.
ستتذكر أنك كنت مشروع كاتب يوما ما.. وستتذكر بالمناسبة أنك كنت ترسم أو تعزف أو تمثل.. ستتذكر أن ذكاءك لم يكن اعتياديا، وأنك كنت تملك جميع مقومات النجاح نظريا.. ولكنك ستبقى تحت خدر إيقاع حياتك الرتيب تمارس نشاط السخط بين الفينة والأخرى..
ستكتشف أن كل هذا ينتمي إلى ماض سحيق، وأن الحياة لا تمنحك ترف ممارسة ما تحب.. لأنك حينما كنت قادرا على التغيير لم تفعل.. لأنك أردت يوما أن تصل إلى كل شيء دون أن تغامر بأي شيء.. وكما قال افنان الساخر الجزائري فلاج، محرفا مثلا فرنسيا شهيرا : “من ليس لديه شيء، فلن يخسر شيئا..”.. لقد كنت خاسرا من البداية يا صاحبي.