إحساس بالبرد يتسرب من فرجة ما.. لفحة باردة تسوط الجزء المكشوف من ظهرك.. هذا الجزء العاري موجود دوما كل صباح.. حتى لو أرتديت عباءة طويلة، وأدخلت جوانبها تماما في سروال النوم، وأحكمت ربط الحزام، فستستيقظ صباحا لتكشف أن الجزء الخلفي من العباءة، الجزء الخلفي دوما، قد خرج من مكمنه، ورسم فوهة مدفعية من البرد الذي يوجه إلى أسفل ظهرك، او أعلى مؤخرتك أيهما أقرب إلى تصورك الشخصي..
تلتف في ملاءتك كالشرنقة، وتعيد تأخير منبه هاتفك النقال بالعشر دقائق الخامسة.. لكنك سرعان ما تقرر الخروج إجبارا من المكمن الدافئ لأنك بدأت تلعب في الدقائق الإضافية الأخيرة قبل أن يبدأ موعد التأخر الرسمي. هذه العادة القبيحة لا تزال تلازمك طبعا.. ظننت يوما بنزعة تفاؤلك المغفلة أنك قد تخلصت منها إلى الأبد.. الوقت يثبت لك دوما كم كنت ساذجا.
تنزل بدون إفطار طبعا لأنك أدمنت شعورا زائفا بالشبع بعد النوم، لا يزول إلا مع مرور ساعة على الأقل.
البرد وصوت المحرك المتحشرج الذي يرنو إلى الدفء بدوره.. لابأس.. لقد ألفت ذلك على مضض.. الدورة الشرفية المعتادة لجمع المجموعة المرافقة، والطريق إلى العمل بالمدينة الأخرى كالعادة منذ ما يربو عن الشهرين.
تشغل السائق الأوتوماتيكي، المكون من يديك وقدميك وعقلك الباطن، وتسبح في ملكوت الله الواسع بعقلك الواعي.. بين الفينة والأخرى، لو كان صديقك (كريم) مستيقظا بما فيه الكفاية، فقد تنخرط وإياه في حوار يتلخص في التناوب على إطلاق مجموعة من القذائف الساخطة على الوضع والعمل والعالم.. ولا بأس بأن تصبغ رؤوس هذه القذائف بسخرية لاذعة مريرة على سبيل تجزية الوقت.. إن المثل القائل “هم يضحك وهم يبكي” يثبت كفاءته دوما..
العالم يغلي، وغزة تقصف، وكل علاقتك بالأمر هو أصوات المذيعين عبر الراديو تعمل كرافعات للضغط ومهشمات للأعصاب.. تكتشف أنك تعيش في عالم آخر بعيد عما يجري.. تتجاهل التلفاز أينما ذهبت.. لكن عينيك وحواسك لا تطاوعك دوما، وتبقى تسترق النظر بين الفينة والأخرى، بهذا المقهى أو بالآخر.. تنظر وتتألم وتهرب.. تقوم بما تستطيع القيام به فعليا، تقدم من مالك ما تستطيع دون أن تجد نفسك مجبرا على أن تصرخ بالأمر كعادة البعض.. وأنت على يقين من أنك لا تزال بعيدا عما يجب فعله أصلا في مثل هذه الحالات، لكن شعورك بالعجز يغلفك..
إنهم يصرون على تعذيبك.. هم يفعلونها بحسن نية غالبا، لكنهم يفعلونها بشكل يذكرك بفشلنا الفظيع، ويذكرك بأننا أبطال العالم في الصراخ.. الآلاف من الإيميلات، والمئات من المجموعات على Facebook على اعتبار أن كل عبقري يكتشف فجأة أنه يجب عليه صنع مجموعة للصراخ من أجل غزة.. والحصيلة تشتت كبير بين المجموعات.. حتى لو كان لبعضها هدف أو وسيلة مساعدة فكيف يمكنك أن تميزها بين المئات الأخرى؟
المئات من الإيميلات التي تصلك لا تفعل سوى الصراخ، مع بعض مقترحات الصيام الجماعي والدعاء من أشخاص ربما لا يفكرون إطلاقا في ما يرسلون أو ما يكتبون..
مثال بسيط يتلخص في رسالة تذكرنا بقنـــــــوت النــــــوازل.. وقنوت النوازل سنة ثابتة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا نزلت بالمسلمين نازلة، يقومون في كل صلاة بعد القيام من الركوع الأخير بالدعاء بما يناسب النازلة.. على أن يكون الدعاء قصيرا ومقتصرا على النازلة.. ثم يقترح كاتب الإيميل دعاء من عنده.. هذا شيء جميل بالفعل، ويذكرنا بأمر مهم.. فقط لو لم يكن الدعاء بطول عمود بجريدة ما.. هنا يظهر التناقض جليا مع ما يقوله بنفسه.. إن الحماس يغيب عنا القليل من العقل.. هذه مشكلة عويصة بالفعل..
ثم ماذا بعد ذلك؟ نحن على بعد ثلاثة أسابيع من توقف القصف.. والصمت التام يخيم على الموضوع بالمجتمع.. البعض راض عن نفسه لأنه أدى واجبه التام في الصراخ وحضور الندوات والوقوف في خمسمئة وقفة احتاجية من كل صنف.. أجل.. الوقفات عندنا يا سادة متنوعة بحسب الواقفين، والتضامن عندنا يتم بالانتماء.. فتجد وقفة الأطباء، ووقفة المهندسين، والوقفة النسائية، ووقفة النقابات، ووقفة الطبقات العمالية، ووقفة الأطفال الرضع.. كأننا لا نستطيع أن نعلن عن وقفة شاملة عامة دون أن تصرخ الجهة المنظمة أن “واك واك اعباد الله راه حنا لي منظمين الوقفة التضامنية”..
ماذا بعد؟ عاد كل إلى مشاغله، وتوقفت كل أشكال الرسائل الإيلكترونية تقريبا، وكأن كل شيء قد انتهى، وتعود حليمة إلى عادتها القديمة..
مشكلتنا نحن العرب، أن نفسنا قصير للغاية.. نحن مثل الألومنيوم، نسخن بسرعة، ونبرد بذات السرعة.. هذا شيء يراهن عليه أعداؤنا بشدة..
مشكلتنا أننا نتحتاج إلى شيء من الدرامية كي تثار حفيظتنا.. منذ متى وغزة محاصرة وسكانها يموتون في اليوم ألف مرة؟ منذ متى والأطفال يموتون جوعا وبردا؟ الموت البطيء الشنيع الذي يسبب الملل للمشاهدين..
أنت أيضا، يا من تكتب هذه الكلمات، تعاني من نفس الأعراض.. ولكنك لاتنكر ذلك على الأقل، ويبقى ضميرك يخزك باستمرار.. لم تكتب شيئت عن الموضوع من قبل بالفعل.. هذا حق.. ربما لأن الموضوع قتل كتابة، والذين يقرؤون لك يعرفون كل ما ستقوله من الألف إلى الياء أكثر منك لأنهم ربما تسمروا أمام الجزيرة.. على العموم هنالك ما هو أكثر من الجهاد الاليكتروني، كما يسمونه، أو من مجرد تعويض كل صورك في المنتديات والمجتمعات الإلكترونية بصورة “كلنا غزة”..
ماذا عن مسألة المقاطعة: رويدا رويدا تخفت حدتها، وبعد مدة تجد مطاعم ماكدونالدز عادت إلى نفس الامتلاء، وتجد زجاجات الكوكاكولا والبيبسي كولا تغرق الموائد مجددا، والبعض – ممن يتمتعون ببعض الخجل الاجتماعي- يتنفسون الصعداء لأن باستطاعتهم الاستهلاك بقدر أقل من تأنيب الضمير..
وتبدأ بعض الردود في المنتديات من طراز: « على فكرة أنا لا أؤمن بفكرة المقاطعة في وضعنا وموقفنا الحالي.. »
هنالك منطق بسيط اتمنى أن تتحملوه:
قاطع كل ما هو واضح، ما لديك بديل عنه، أو ما لا يمكن ان يقتلك التخلي عنه..
لن يمكنك التخلي عن معالجات الكمبيوتر لأنه لا يوجد بديل، إلا العودة إلى عصر ما قبل الكمبيوتر..
لن يمكنك التخلي عن أكل الخبز ذي القمح الأمريكي لأنك لن تعيش بدونه، وإن وجدت بديلا من شركة وطنية مضمونة فافعل.. وإن كان هذا البديل غير منتشر أو الوصول إلى منتوجه صعب جدا فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها..
في الاتجاه الآخر يمكنك التخلي عن المشروبات الغازية تماما وتعويضها بالعصير الطبيعي.. أنت تقدم خدمة لجسدك نفسه هنا بالمناسبة..
المقاطعة سلاح فعال ومؤثر، لا شك في ذلك، وحتى لو كان ماكدونلدز في المغرب تابعا لشركة مغربية معروفة، فأنت ستقاطعه لسبب بسيط: يجب أن يبحثوا عن البديل وأن يكفوا عن دفع حقوق استغلال لماكدونالدز.. ولو قاطعناهم جميعا لبحثوا عن بديل..
أقرأ أيضا: